العلاقات السعودية ـ الأميركية ترسم خريطة جديدة للتفاهم

  • 12/27/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

اعتبر الرئيس ترمب أن إبراز الفروق بينه وبين الرئيس الأسبق باراك أوباما هو مبدأ أساسي في سياساته المحلية والخارجية، في الوقت الذي رحّبت فيه السعودية بانتخاب رئيس معارض في سياساته الخارجية للسياسة التي اتبعها أوباما، خصوصاً فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، بعد أن رأوا أن إدارة الأخير عملت إلى حدّ ما على التنصّل من الشرق الأوسط والتزاماتها تجاه أصدقائها التاريخيين فيه.فإدارة الرئيس السابق تخلَّت عن الرئيس المصري حسني مبارك الذي كان صديقاً لها طوال ثلاثين عاماً، واتجهت إلى المحور الآسيوي، ولم تلتزم بالخطوط الحمر التي وُضِعت بشأن سوريا، وتوقيعها للاتفاق النووي مع إيران. وبعد أن اعتبر الرئيس أوباما أنه على المملكة أن تتشارك المنطقة مع الإيرانيين، أدركت السعودية أنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على الإدارة الأميركية في ظل سياسة أوباما الذي بدا وكأنه يجرّ بلاده نحو أعدائها التقليديين، وليس نحو أصدقائها في المنطقة.ولكن رغبة ترمب في زيارة المملكة في أول رحلة خارجية له أتت رسالةً قويّةً وتعويضيةً، فعمل مع الملك سلمان على التأكيد على تغيّر العلاقات بين البلدين. وعلى الرغم من أن العلاقة بين البيت الأبيض والقيادة السعودية جيّدة، صدرت عن الإدارة الأميركية بعض إشارات المعارضة، حيث تبنّى وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ووزير الدفاع جيمس ماتيس موقفاً مختلفاً عن موقف ترمب فيما يتعلّق بمقاطعة قطر التي تقودها المملكة. أما وزير الخارجية ريكس تيلرسون، فقد فكّر في التوسط لحلّ الخلاف، ووقع مع قطر مذكرة تفاهم ثنائية تقضي بمحاربة الأولى لتمويل الإرهاب، ظنّاً منه أن هذه المذكرة كفيلة بحلّ المشكلة.ولكن مهما بلغت درجة التباين داخل الإدارة الأميركية، يبقى الرئيس ترمب صانع القرار، وهو مستمر في دعمه الكبير للملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان؛ فقد رحّب ترمب بإطلاق هيئة مكافحة الفساد في المملكة، وبخطوة اعتقال نحو 200 مسؤول وشخصية سعودية، مصرحاً عبر «تويتر» بأن هذه الاعتقالات طالت أشخاصاً «حلبوا» البلاد لسنوات. يرى الرئيس الأميركي وصهره جاريد كوشنر، الذي وطّد روابط قوية مع ولي العهد، في العلاقة مع السعودية الركيزة الأساسية لنهجهم في الشرق الأوسط. صحيح أن الطريق لا يزال في بدايته، وأنه يتطلّب الكثير من العمل والتطور، ولكن الاحتمال الأكبر هو أن إدارة ترمب ستعتمد على السعودية في بناء سياساتها الجديدة في الشرق الأوسط.لكنّ الطريق لا يزال طويلاً قبل تحقيق هذه الخطوة، خصوصاً أن المملكة تقود في هذا الوقت تحديداً مرحلة من التحوّل الجذري الطموح في الداخل. قال لي أحد الوزراء السعوديين عندما التقيتُه العام الماضي مرحّباً: «أهلاً بك في ثورتنا المتخفية بقناع الإصلاح الاقتصادي». لعلّ الوزير قال هذه العبارة على سبيل المزاح، ولكنه لم يبالغ أبداً. فقد قلّصت المملكة صلاحيات الشرطة الدينية، وعملت على تصحيح الأقاويل المتطرفة التي تتعارض مع القرآن، وعلى إصلاح التعليم عبر تبني المنهج التفاعلي بتغيير الكتب أو استبدال الأجهزة اللوحية بها. كما منحت المرأة حقّ قيادة السيارة وسُمِح لها بحضور المناسبات الرياضية، إلى جانب إقامة الحفلات الغنائية الحاشدة التي يحييها فنانون بدعوة من المملكة. وتعتزم السعودية تحويل جزء من شركة «أرامكو» (الشركة الوطنية السعودية للبترول) إلى القطاع العام، ما يعني أن ملفاتها ستُفتَح وسيصار إلى وضع سياسة شفافية جديدة. كما قرّرت أن تعتمد سياسة التنويع الاقتصادي ومصادر عائداته كهدف ضروري على المدى البعيد، مع تأسيس صندوق للاستثمار العام والخصخصة بهدف درّ أموال لتطوير الصناعات المحلية.إن تحقيق تغييرات اجتماعية واقتصادية بهذا الحجم لن يكون سهلاً أبداً؛ ففي ظلّ اعتماد 80 في المائة من العائلات في المملكة على دعم الحكومة وتراجع أسعار النفط، لا شكّ في أن إدارة مرحلة انتقالية نحو اقتصاد مختلف يعتمد بشكل أكبر على القطاع الخاص ستواجه تحديات كبيرة. كما يحتاج المجتمع السعودي الذي يشكّل الشباب ما دون الثلاثين أكثر من ثلثي سكانه إلى كثير من فرص العمل، خصوصاً أن هذه التركيبة الشابة ستجعل المجتمع أكثر انفتاحاً على التغيير. وكان الأمير محمد بن سلمان قد أوضح في اجتماع، العام الماضي، أنه يريد للشباب السعودي أن يحلم وأن يكون قادراً على تحقيق أحلامه.تُسهِم الولايات المتحدة بحصة كبيرة في نجاح برنامج التحول الوطني في السعودية الذي لم يشهد العالم العربي حتى هذا اليوم نموذج حداثة شاملاً مماثلاً له؛ فقد قدم القوميون العرب العلمانيون، كعبد الناصر وصدام حسين، والحركات الإسلامية، كالإخوان المسلمين و«القاعدة»، وعوداً كثيرة ومبهرة تعهّدت باستعادة عظمة مفقودة، ومعالجة منطقة تعرضت للإهمال، وإحقاق العدالة لجميع المواطنين، إلا أن آيديولوجياتهم لم تترك لهم طريقاً للنجاح؛ إذ إن فشل الحكم والنفور المدفوع بالإحباط أدّيا غالباً إلى إفقار الشعوب التي بنت آمالها على أصحاب الوعود الكبيرة من مدعين محكومين بالفشل. ولكن، في حال كان الشرق الأوسط لا يزال يحلم بمستقبل متفائل، لا بدّ له من اختيار إدارة شريفة واعتماد مقاربة ناجحة وواضحة للتطوير.لهذا السبب، يتوجب على الإدارة الأميركية أن تفعل ما بوسعها للإسهام في إنجاح تطبيق الرؤية السعودية 2030، التي لن تسهِم في بناء مستقبل مستقر للمملكة فحسب، بل في تقديم نموذج يمكن تعميمه على الشرق الأوسط من خلال التقدّم وحسن الإدارة والتعاون، وليس عبر العنف والتعصب ورفض الآخر.تستطيع إدارة ترمب أن تسهم عبر التشجيع على الاستثمار في المملكة، خصوصاً أن السعودية أظهرت، وتحديداً عبر تأسيسها لهيئة مكافحة الفساد، أنها ستحافظ على الشفافية وسيادة القانون. ولا بدّ من التذكير بأن ثقة المستثمر هي العنصر الأساسي لجذب الأموال الخارجية.تستطيع إدارة ترمب أيضاً أن تساعد من خلال التعاون مع السعوديين والشعوب الأخرى في التعامل مع التهديدات في المنطقة في ظلّ وجود رؤية مشتركة واضحة حول التهديدات الإيرانية واستخدامها للميليشيات الذي يعرّض المنطقة للخطر ويعرقل مصالحها ومصالح السعوديين والأميركيين على حدّ سواء. صحيح أن التعاون القائم في قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب كبير، إلا أنه يمكن للإدارة الأميركية أن تقدّم المزيد بالتعاون مع المملكة ودول أخرى. يحتاج الشرق الأوسط إلى استراتيجية احتواء أكثر فعالية. من جهتها، يتوجب على الولايات المتحدة القيام بالمزيد لاحتواء توسع الإيرانيين وأدواتهم في سوريا، تتذرع الإدارة الأميركية بالتعاون مع روسيا في الشأن السوري، ولكن استجابة روسيا تستلزم تنبيهها إلى أنها في حال لم تلتزم تطبيق اتفاقها مع الولايات المتحدة الذي ينص على إقامة مناطق لخفض التصعيد، أو بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، خصوصاً في شِقِّه المتعلق بوقف إطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية دون عرقلة، وعملية الانتقال السياسي، سيسبب ذلك أزمة. في هذه المرحلة، تبدو المقاربة التي تعتمدها إدارة ترمب شبيهة بتلك التي اعتمدتها إدارة أوباما. ولكن على روسيا أن تعلم أنها في حال لم تمنع نظام الأسد من مهاجمة مناطق خفض التصعيد، ستتولى الولايات المتحدة هذا المنع، لأن ذلك مهم لنجاح أي عملية سياسية، وللتصدي للتوسع الإيراني في سوريا.يمكن للسعوديين وأطراف أخرى أيضاً لعب دورٍ في استراتيجية الاحتواء؛ فبالتعاون مع الإدارة الأميركية والإمارات العربية المتحدة والكويت والأوروبيين، يمكن للسعودية أن تساعد في تمويل إعادة إعمار المناطق التي تمّ تحريرها من «داعش» في سوريا والعراق. يحاول الإيرانيون وأدواتهم اليوم ملء الفراغ في هذه المناطق، ويجب العمل على منعهم من خلال التنسيق مع القوى المحلية والشعوب لإعادة الإعمار وإرساء النظام والأمن. يلعب هذا الموقف دوراً مهماً جداً في أي استراتيجية احتواء.إن الهدف من احتواء إيران ليس تغيير نظامها، بل تغيير السلوك الذي يعتمده هذا النظام. إيران دولة كبرى، ولها مصالحها في المنطقة، ولكن من الصعب احترام هذه المصالح في ظلّ عدم جهوزية النظام الإيراني لاحترام مصالح الآخرين، واعتقاده بأنه يحقّ له السيطرة على المنطقة. عندما تصبح إيران مستعدة للتعايش مع جيرانها، دون السعي إلى تخريب أنظمتهم ومحاولة السيطرة عليها، يمكن عندها، بل سيكون من الواجب احترام مصالحها.أخيراً، من الضروري أن تسعى إدارة ترمب لبناء قناة استشارية عالية المستوى مع القيادة السعودية، إذ يجب على المملكة والإدارة الأميركية أن تستشيرا بعضهما قبل اتخاذ أي قرار قد يؤثر على المنطقة أو على مصالح الطرف الآخر. في المقابل، كانت هذه القناة ستتيح للمملكة فرصة الاستماع إلى وجهات النظر الأميركية بشأن قطر أو لبنان، ولمعرفة ما إذا كان هناك ضرورة لتوزيع الأدوار بين الدولتين للقيام بهذه الخطوات أو خطوات أخرى أكثر فعالية لتحقيق الأهداف المشتركة.لا تزال سياسات واستراتيجيات إدارة ترمب بشأن الشرق الأوسط قيد التشكيل، ولكنني أومن بأن الإدارة الأميركية تحترم دورنا في علاقتها مع المملكة العربية السعودية، وآمل أن تضع آليات أقوى لتعزيز الأهداف المشتركة.

مشاركة :