يضم هذا الكتاب "مطاردة العلامات.. علم العلامات والأدب والتفكيك" للناقد البنيوي الأميركي جوناثان كلر، والذي قام على ترجمته الناقد د. خيري دومة أحد عشر فصلاً، هي في الأصل دراسات أكاديمية معمقة نشرها كلر خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين، وفيها يقوم بعملية مراجعة للنقد الأدبي وتوجهاته ومسيرته منذ مدرسة النقد الجديد في النصف الأول من القرن العشرين التي وجهت النقد الأدبي وأخذته في طريقها الخاص، فأفادته وأضرته في الوقت نفسه. ووفقا للمترجم في تقدمته للكتاب الصادر عن المركز القومي للترجمة فقد ركزت مدرسة النقد الجديد على نصوص الأدب من داخلها، ونهضت على عمليات تفسير جديدة للنصوص انطلاقًا من "القراءة الفاحصة" بعيدًا عن الخلفيات والسياقات التاريخية والبيوجرافية، واستخدمت كل ذلك في تدريس الأدب وتقريبه وتحبيبه إلى الجمهور الأوسع من المتعلمين والقراء. لكنها بتركيزها على التفسير أعاقت جوانب أخرى من النقد الأدبي عن النمو وعزلت النقاد في منطقة التفسير الضيقة، وأغرت النقاد الذين جاءوا بعدها أن يمارسوا عمليات تفسير وقراءة لا تنتهي ولا تكاد تلتفت إلى السياق الأوسع الذي ليس بوسع ناقد الأدب أن يتحرك خارجه أو بعيدًا عنه. خصص كلر الدراسة الأولى لتأمل مدرسة النقد الجديد وتأثيرها على مسيرة النقد الأدبي التالية في القرن العشرين. وتكاد هذه الدراسة أن تكون تمهيدًا تنهض عليه الدراسات التالية في الكتاب التي ناقشت كثيرًا من التوجهات النقدية الجديدة، عبر مناقشة لمصطلحات أساسية في ذلك النقد، كالالتفات، ومرحلة المرآة، والقصة والخطاب، والافتراضات المسبقة، والتناص، والاستعارة، والنموذج السري، والتفكيك، والتحليل النفسي، ونظريات القراءة.. إلخ. ورأي د. خيري دومة أن ما يجمع هذه الفصول التي تلخص توجهات النقد الأدبي في القرن العشرين، هو تركيزها على روافد مختلفة من النقد غذت ما صار يطلق عليه "علم العلامات"، أي السيميوطيقا بالمصطلح الأميركي، والسيميولوجيا بالمصطلح الأوروبي. ولهذا فإن كلر يجعل عنوان كتابه "مطاردة العلامات"؛ لأنه رأى النقد المعاصر كله وكأنه مطاردة للعلامات، مطاردة بالمعنى الحرفي كما يقول، لأن النقاد يقومون بعمليات اقتناص وفرز للعلامات، وبيان لأصولها ونوعياتها وتركيباتها، سواء انطلقوا من البلاغة، أو من التحليل النفسي، أو من دراسات السرد، أو الأسلوبيات.. إلخ. بدأ كلر الكتاب بتصدير أكد فيه أن واحدة من أهم خصائص النقد الأدبي في السنوات الأخيرة، هي تنامي الاهتمام بالعلامات، وبصيغ الدلالة فيها. وقال "كان رولان بارت في أوائل الستينيات قد أبلغ القراء المهتمين بآخر صيحة في الفكر، أن الطريق إلى فهم ناقد بنيوي ما، يكون من خلال مفردة محددة في الدلالة: ابحثْ عن مفردتي دال ومدلول، استبدالي وتركيبي؛ فبهذه العلامات يمكنك أن تعرف البنيويين. ربما كان هذا – وربما لم يكن – اختبارًا مؤكّدًا في زمنه، لكن هذه المفردات اليوم، وبسبب النشاط الدعائي للبنيويين أنفسهم من غير شك، صارت شائعة. لم يعد مصطلحا الدال والمدلول من المصطلحات التي يعتمد عليها عند الكلام عن التزام نظرية معينة. يبدو المصطلحان شائعين على مدار واسع من الكتابات النقدية والتفسيرية، بل في أعمال التاريخ الأدبي. لقد صار نشاط النقد مقيدًا بالعلامة، وبخلافات النظرية النقدية حول إمكانية التحكم في هذه العلامة. ورأى كلر أن النقد هو مطاردة العلامات؛ ذلك أن النقاد مهما تكن قناعاتهم، مدفوعون بنزوع حثيث، إلى فهم واصطياد أبنية العلامات النثرية الملتبسة الدالة. وينشأ النقد بسبب أن علامات الأدب أبدًا لا تُعطي نفسَها بسهولة، بل لا بد من مطاردتها، وصيغ النقد المختلفة يمكن التمييز بينها من خلال ما تبذله من جهد في هذه المطاردة. والسيميوطيقا - التي تعرِّف نفسها بأنها علم العلامات – تفترض مطاردة للحيوانات؛ إذ يود السيميوطيقي أن يكتشف ما أنواع العلامات، وكيف تختلف إحداها عن الأخريات، وكيف تؤدي وظيفتها في موطنها الأصلي، وكيف تتفاعل مع الأنواع الأخرى. ومن يقوم بالتحليل ـ إذ يواجه فيضًا من النصوص توصل معاني مختلفة إلى قرائها ـ لا يطارد معنى ما، وإنما يسعى إلى إدراك العلامات ووصف طريقة قيامها بوظيفتها. وهذا المشروع العام والتصنيفي بالنسبة لنقاد آخرين، مشروع قليل الأهمية. ومثلما يطارد الصيادون وحشًا معينًا لإحراز ميدالية عظيمة، يكون لديهم هدف أكثر وضوحًا. متواليةٌ من العلامات تقف هناك وتنتظر التفسير، ويطاردها شخص ما، كي يصطاد معناها. وأوضح أن كتابه يدرُس مشكلات علم العلامات في الأدب، ومشاريع هذا العلم، خصوصًا تلك المشكلات والمشاريع التي يرسمها الخلاف النظري الجاري. لقد زعم علم العلامات على العموم، أن دراسة الأدب لا بد أن تكون قبل أي شيء، بحثًا في طرق الدلالة الأدبية ووسائلها. ويؤكد المنظِّرون أحيانًا، أن إمكانية تفسير الأعمال الأدبية المفردة، إنما يعتمد على فهم كامل للأنظمة والإجراءات التي يسعى علم العلامات إلى بلورتها؛ إذ لا يمكن للنقاد أن يأملوا في العمل على إنجاز تفسيرات لرواية من الروايات، ما لم يكن لديهم فهمٌ شامل لطبيعة السرد وتقاليده، وللعلاقات بين القصة والخطاب، ولإمكانات البنية الموضوعاتية. وفي أحيان أخرى، يؤكد علماء العلامات أن تفسيرات القراء والنقاد، هي نفسها جزءٌ من المادة التي يدرسونها؛ فأن تدرس دلالة أدبية يعني أن تحلل كيف تتواصل الأعمال الأدبية مع القراء. غير أن مهمة علم العلامات في كلتا الحالتين، هي وصف منظومة الدلالة الأدبية، التي يرسمها القراء والنقاد في لقائهم بالأعمال الأدبية. والهدف هو وصف كامل لهذه المنظومة، تمامًا كما أن هدف اللغويات هو وصف كامل لمجموعة القواعد والتقاليد التي تتألف منها لغة ما، وجعل التواصل اللغوي ممكنًا. وأشار كلر إلى أن مثل هذه المشروعات العامة والطموحة تثير الخلافات؛ فهناك خلافات داخل علم العلامات حول كيفية استمراره، وخلافات مع المنظِّرين الآخرين حول إمكانية مشروع كهذا. وهذا الكتاب معنيٌّ بالأمرين معًا؛ إذ يقدم الجزء الأول مراجعتين عامتين للنقد المعاصر ولعلم العلامات، موجِزًا مسألتين كبيرتين تتناولهما الأقسام التالية من الكتاب، الأولى هي دور التفسير ومكانته؛ ففي قراءة مراجعات الأعمال النقدية والنظرية، يصدم المرء من كثرة ما تتعرض له هذه المراجعات من اختبار واحد متكرر، المرة تلو المرة: هل تعطينا هذه المناقشة إمكانية لإنتاج تفسيرات جديدة للأعمال الأدبية؟ إذا كان الأمر كذلك، فدعنا نختلف حول مصداقية هذه التفسيرات، وإذا لم يكن كذلك، أسلِمْها للنار؛ ذلك أن التدليل على خطاب نظري ما، يكمن في التفسيرات التي يعطيها عند "التطبيق". والقول بأن إنتاج تفسيرات جديدة هو مهمة الدراسة الأدبية، وسبب وجود كل كتابة حول الأدب، هو الآن فرضية أساسية في النقد الأنجلو أميركي، وهو النقد الذي كان له الأثر الحاسم على كل تطورات النقد المعاصر. والمسألة الثانية هي علاقة علم العلامات بالتفكيك، وقد نشأ التفكيك أيضًا عن تأمل في العلامات، غير أن طموحه كان مختلفًا. إنه كما تقول باربارا جونسون: "تمشيطٌ حذِر للقوى القلقة التي تعمل في الدلالة داخل النص". وانطلاقًا من التشكك في إمكانية الفهم الكامل للمعنى، من خلال منظومة متناغمة أو علم من العلوم، يدرس التفكيك في أكثر النصوص قوة وتشويقًا، عما يجب أن تخبرنا به عن الدلالة، ويوضح كيف تفسد هذه النصوص منطق الدلالة الذي تعتمد عليه. وبعد أن انتهي كلر من مراجعاته تناول في الجزء الثاني من الكتاب مشكلات علم العلامات الأدبي بشكل أكثر تفصيلاً. متصورًا الطرق المختلفة لتناول الدلالة الأدبية، واستخدام مفاهيم محددة مثل "أفق التوقعات" و"التناص". "لقد كان التطور الأعظم في النقد المعاصر هو التركيز على القارئ، سواء في نظريات الدلالة الأدبية، أو في ذلك النقد الذي يصف معنى العمل الأدبي وكأنه يساوي التجربة التي يثيرها لدى القارئ. إن النقد المعتمد على استجابة القارئ، بصفته منهجًا في التفسير، يطرح أسئلة متنوعة، غير أن أكثر الأسئلة أهمية بالنسبة لي هي علاقة هذا المنهج بالشعرية (البويطيقا) وبعلم العلامات (السيميوطيقا)، وهي العلاقة التي يمكن تصورها وكأنها نظريات في القراءة". وخلال هذا الجزء من الكتاب، كنت أسعى جاهدًا إلى التفرقة بين النقد التفسيري والبويطيقا، ويبدو لي أن هذه التفرقة، هي السبيل الوحيد لتجنب الفوضى المحيطة بالبنيوية وبعلم العلامات الأدبي على السواء. وضع كلر الجزء الثالث من الكتاب تحت مظلة التفكيك؛ معللا ذلك بأنه معنيٌّ بما ينطوي عليه علم العلامات من جوانب للمعنى الأدبي وضعها التفكيك في الصدارة. في موضع آخر، أعني في كتابي "عن التفكيك: النظرية الأدبية في السبعينيات"، كنت قد تعاملت مباشرة مع التفكيك، وقدمت عرضًا موسّعًا لما طرحه ديريدا، كما قدمت مسحًا شاملاً للتفكيك في النقد الأدبي. أما هنا، فأنا معنيٌّ، لا بالأطروحات الفلسفية، ولا بالعلاقة بين الكلام والكتابة، وإنما بالكيفية التي تتواءم بها لحظاتٌ إشكاليةٌ معينة في النصوص مع علم العلامات، وما الأثر الذي تتركه على علم العلامات، ويحاول علم العلامات الإحاطة به. لقد بدأ الفصل السابع مثلاً، وعنوانه "الالتفات"، وكأنه دراسة سيميوطيقية لخاصية صادمة ـ وإن تكن ملغزة ـ في القصيدة، وفي الشعر الغنائي على العموم، أعني استدعاء أو مخاطبة كائنات غائبة، وموجودات متعددة من غير بني البشر: أرواح، طيور، أرائك. إن للالتفات خصائص لغوية لافتة، والسؤال هو: كيف تقوم هذه العلامات اللغوية بوظيفتها ضمن نسق النظام الثاني داخل الشعر الغنائي؟ يمكن للمرء من حيث المبدأ، أن يعزل عددًا من الوظائف الدالة المختلفة، والسمات التي يمكن تمييز هذه الوظائف من خلالها. إن الأثر أو البصمة الفورية للالتفات هي الإحساس بالورطة، ويمكن للمرء انطلاقًا من هذه النقطة، أن يدرك سلسلة من الإمكانات الشعرية. ومهما يكن من أمر، فإن النتائج تشير إلى أن قلبًا بنيويًّا معينًا لوضع الصور الشعرية، سيجعل من المستحيل وجود علم للعلامات، يلتزم بترسيم الدوال والمدلولات واحدًا في مقابل الآخر. وأشار كلر إلى أن التفكيك لا "يفنِّد" البنيوية وعلم العلامات، كما يزعم بعض دعاة "ما بعد البنيوية". لو كانت القراءات التفكيكية تعطينا مبررات للاعتقاد بأن علمًا كاملاً وغير متناقض للعلامات هو أمر مستحيل، فإن ذلك لا يعني وجوب التخلي عن المسعى نفسه، وإلا لكان إثبات جوديل عدم اكتمال الرياضيات الشارحة، قد أدى إلى تجنب الدراسات القائمة على الرياضيات الشارحة. بل إنه يمكن للمرء أن يقول بأن التناقضات، التي تراها القراءات التفكيكية كشوفات في عمق طبيعة اللغة الأدبية، هي بالنسبة للسيميوطيقيين من نتائج عمليات التمييز المنهجية الأساسية؛ أي التمييز بين اللغة والكلام، بين المنظومة والحدث المفرد، بين المتواقت والمتعاقب، بين الدال والمدلول، بين الاستعارة والكناية، وهي تمييزات لا تزال أساسية بالنسبة للمشروع التحليلي، رغم أنها تخفق في نقاط معينة، وتعطي وجهتي نظر لا يمكن الجمع بينهما. ورأى أن "علم العلامات مشروع ينهض على لغة شارحة؛ إذ يحاول أن يصف لغة الأدب الملتبسة، الغامضة، المتناقضة، ولكن بلغة شارحة، دقيقة ولا غموض فيها. غير أنه بات من الواضح أن الخطاب النقدي والنظري ـ مع تكاثر اللغات النقدية الشارحة في السنوات الأخيرة ـ يشترك في كثير من الخصائص مع اللغة التي يحاول أن يصفها؛ فالخطاب الذي يحاول تحليل الاستعارة، لا يهرب هو نفسه من لغة الاستعارة. هناك وظيفة تقوم على لغة شارحة: إذ يمكن للغة أن تناقش اللغة، ولكن لا وجود للغة شارحة مجاوزة للغة، إنه مزيد من تراكم اللغة على اللغة. وقد كان التفكيك مرهفًا في هذه النقطة خصوصًا؛ إذ يوضح الانخراط الغريب للنظريات في المناطق التي تدعي أنها تقوم بوصفها، كما يكشف كيف يصبح النقاد متورطين في عملية إعادة تفعيل مُزاحَة لسيناريو النص. وهكذا يكون النص مطاردة للعلامات بمعنى ثانٍ؛ فهو تسليةٌ أو نشاطٌ، في العلامة وعنها. وكون العلامات ليست مجرد موضوعات يبحث فيها الناقد، بل هي أيضًا أدوات وأساسات لذلك البحث، كل ذلك لا يعني أن على الناقد أن يحسب نفسه شاعرًا، أو ينتهز كل فرصة للعب بالألفاظ. على العكس، يمكن للمرء أن يستمر في مطاردة العلامات، ومحاولة الوصول إلى حقيقتها، وفهمها فهمًا كاملاً، وصياغتها، وتحديدها، رغم أنه يعرف أنه متورط في عملية إنتاج دلالة لا يمكنه السيطرة عليها بشكل كامل، إنها عملية في حالة عمل، حتى في اللحظات التي يقوم فيها المرء بإنتاج أفضل صياغاته وأوضح كشوفاته. محمد الحمامصي
مشاركة :