استمعت إحدى محاكم نيويورك إلى مزاعم دفع رشى فيما يخص بطولة كأس العالم لعام 2022 المقرر استضافتها في قطر، تضمنت أسماء مسؤولين سابقين بارزين في الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، مثل جاك ورنر ونيكولاس ليوز. اللافت أن أكثر المعلومات الصادمة والمروعة التي ارتبطت بمحاكمة «الفيفا» الجارية في بروكلين بنيويورك لم يكن لها علاقة كبيرة باثنين من المتهمين الثلاثة اللذين صدرت بحقهما أحكام إدانة، الجمعة. في الواقع، بدا الاثنان أشبه بسمكتين صغيرتين في وسط حيتان كرة القدم الناهبة للأموال. وكانت صدمة للجميع معاينة أدلة حية جرى تقديمها حول دفع رشى في إطار صفقة بيع حقوق البث التلفزيوني للبطولات المقامة داخل أميركا الجنوبية. وكانت هذه الحقيقة البائسة والمحزنة قد تأكدت من الاعترافات التي تقدم بها 23 مسؤولاً آخرين بمجال كرة القدم من الأميركتين الشمالية والجنوبية بخصوص تورطهم في جرائم فساد. وكشف أحد المتهمين في خضم الأدلة التي قدمها تلقي بعض كبار المسؤولين بـ«الفيفا» من أميركا الجنوبية رشى من أجل التصويت لصالح قطر فيما يخص استضافة بطولة كأس العالم لعام 2022. وبقيت تلك المزاعم قائمة دون اتخاذ أي خطوات رسمية للتحقق منها، الأمر الذي يثير مزيداً من التساؤلات وعلامات الاستفهام، في وقت ينتظر المتهمان خوزيه ماريا مارين وخوان أنخيل نابوت اللذين أدينا بتلقي رشى لإبرام اتفاقات تتعلق بحقوق البث التلفزيوني في أميركا الجنوبية، صدور العقوبات التي ستقررها المحكمة بحقهما، بينما لا تزال هيئة المحلفين في حالة تشاور بخصوص موقف المتهم الثالث، مانويل بورغا. جدير بالذكر أن المزاعم المرتبطة بقطر سبق أن أثيرت في وقت مبكر من خلال أدلة قوية قدمها أليخاندرو بورزاكو، أحد المسؤولين التنفيذيين بإحدى الشركات المعنية بحقوق البث التلفزيوني للفعاليات الرياضية كانت السلطات الأميركية قد ألقت القبض عليه بتهمة تقديم رشى لمسؤولين رياضيين واستعانت به لمعرفة ما اقترفه هؤلاء المسؤولون من جرائم. وشكلت الأدلة التي قدمها الأرجنتيني بورزاكو عاملاً محورياً في إدانة مارين، الرئيس السابق لاتحاد كرة القدم البرازيلي، ونابوت المنتمي إلى باراغواي والرئيس السابق لاتحاد أميركا الجنوبية لكرة القدم، المعروف اختصاراً باسم «كونميبول». وقد أدين الاثنان بتلقي رشى لدى بيع حقوق البث التلفزيوني لبطولتي «كوبا أميركا» و«كأس ليبرتادوريس»، بجانب حالة مارين بطولة كأس البرازيل. إلا أن بورزاكو شهد أيضاً أن واحداً من أقوى قيادات «الفيفا» على مر العصور، خوليو غرندونا، رئيس اتحاد كرة القدم الأرجنتيني منذ عام 1979 حتى وفاته، عندما كان لا يزال في منصبه، تحديداً عام 2014، كان شديد الفساد. وقال بورزاكو إنه بينما كان يوزع الرشى من أجل الفوز بحقوق البث التلفزيوني لبطولة «كوبا أميركا»، أخبره غرندونا أنه يتعين عليه دفع مليون دولار إضافي له، والتي كان من المقرر تقديمها إلى رئيس اتحاد كرة القدم البرازيلي آنذاك، ريكاردو تيكسيرا. جدير بالذكر أن غروندونا كان عضواً باللجنة التنفيذية في «الفيفا» على امتداد 26 عاماً وعمل فعلياً بمثابة نائب لسيب بلاتر، رئيس «الفيفا»، خلال السنوات الأخيرة من عمره. وتبعاً للشهادة التي أدلى بها بورزاكو، فإن المسؤول الأرجنتيني الراحل أخبره أن تيكسيرا «مدين له»، وذلك لأن «غرندونا صوت لصالح قطر لاستضافة كأس العالم عام 2022». وقال بورزاكو إنه سافر لحضور التصويت في زيوريخ في ديسمبر (كانون الأول) 2010 برفقة غرندونا وتيكسيرا ونيكولاس ليوز من باراغواي والذي ظل رئيساً لـ«كونميبول» طوال 27 عاماً، وأوضح أنه «لم يكن سراً» أنهم جميعاً سيصوتون لصالح قطر. كما ذكر بورزاكو في شهادته أنه خلال الجولات الأولى من التصويت، وجه كل من غرندونا وتيكسيرا التوبيخ لليوز قائلين: «ما الذي تفعله بحق الجحيم؟ هل أنت الشخص الذي لا يصوت لصالح قطر؟» بعد ذلك، صوت ليوز بالفعل لصالح قطر، تبعاً لما أفاده بورزاكو. وقال أيضاً إن غرندونا شعر بغضب شديد إزاء التقارير الإعلامية السلبية، وإنه رأى زميله يطالب مسؤولين قطريين بدفع 80 مليون دولار له أو كتابة خطاب يقرون فيه أنهم لم يدفعوا له أية رشى قط. جدير بالذكر أن أعمال تشييد الاستاد البالغة تكلفته عدة مليارات الدولارات حسبما يفرض التصويت الذي جرى عام 2010، لا تزال جارية داخل قطر، الإمارة الخليجية الصغيرة بالغة الثراء التي تخضع حالياً لحصار من جانب الدول المجاورة في إطار مواجهة سياسية شرسة بين الجانبين. من ناحيته، تمسك الفريق الرسمي الذي تقدم بالملف القطري لاستضافة بطولة كأس العالم، دوماً بنفي دفع أي رشى، ولم يتوصل الرئيس السابق للجنة القيم التابعة لـ«الفيفا» والمحقق الأميركي، مايكل غارسيا، لوقوع أي حالات رشوة. داخل بروكلين، يقدم المتهمون الثلاثة شهادات كاشفة كل يوم، في الوقت الذي تذكرنا المحاكمة الجارية بالآخرين الذين نجحوا في الفرار من العدالة حتى الآن أو رفضوا المثول أمام المحكمة. جدير بالذكر أن مارين ترأس اتحاد كرة القدم البرازيلي لمدة ثلاثة سنوات، بعد أن تولى المنصب في مارس (آذار) 2012 خلفاً لتيكسيرا الذي واجه اتهامات أكبر وأخطر بتلقي رشى. تجدر الإشارة هنا إلى أن تيكسيرا زوج ابنة جواو هافيلانج، الرئيس البرازيلي الفاسد لـ«الفيفا» من 1974 حتى 1998، وقد ظل في رئاسة اتحاد كرة القدم البرازيلي طيلة 23 عاماً ودائماً ما كان ينفي تورطه في أية انحرافات ولا يزال داخل بلاده، رافضاً المثول أمام المحاكم الأميركية. أما نابوت، فكان رئيساً لـ«كونميبول» لمدة عام واحد فقط، من أغسطس (آب) 2014 حتى إلقاء القبض عليه في زيوريخ في ديسمبر 2015. وقد خلف في هذا المنصب يوجينيو فيغيريدو، من أوروغواي والذي أدين آنذاك بالفساد، لكن الهدف الأهم رغم كونه في الـ89 من عمره، يبقى ليوز. كان ليوز قد تولى المسؤولية خلال حقبة العائدات الهائلة التي تقدر بملايين الدولارات من وراء البث التلفزيوني لمباريات كرة القدم، ويواجه اتهامات بكونه رائداً ثقافة الرشوة مقابل بيع حقوق البث عن أي فعالية رياضية. كان ليوز أحد الأعضاء النافذين في اللجنة التنفيذية بـ«الفيفا» بجانب غروندونا وتيكسيرا على امتداد سنوات بلاتر. من جانبه، ينفي ليوز هو الآخر الاتهامات الموجهة إليه ومن المتوقع أن يستأنف ضد القرار الصادر الشهر الماضي من إحدى محاكم باراغواي بترحيله إلى الولايات المتحدة. في المقابل، فإن بورغا، الرئيس السابق لاتحاد كرة القدم في بيرو، والذي استغرقت هيئة المحلفين وقتاً أطول للوصول إلى حكم بشأنه، فلم يكن يوماً من الشخصيات النافذة داخل «الفيفا» وربما لا يبقى عالقاً في الأذهان سوى بسبب إشارة الذبح التي وجهها إلى بورزاكو داخل المحكمة، والتي زعم محاميه أنه كان خلالها «يشعر بحكة في رقبته فحسب». أما الحوت الآخر الكبير الذي يبقى بعيداً عن أيدي العدالة رغم ورود اسمه في قرار إدانة جنائية، جاك ورنر، رئيس اتحاد شمال ووسط أميركا والكاريبي لكرة القدم، والمعروف اختصاراً باسم «كونكاكاف»، على مدار 21 عاماً حتى عام 2011. جدير بالذكر أن بلاتر الذي انهارت رئاسته للاتحاد في أعقاب غارات الفجر التي شهدتها زيوريخ ضد مسؤولين بالاتحاد في مايو (أيار)، فلطالما أعرب عن غضبه الشديد إزاء التحقيق الأميركي، مشيراً عن حق إلى أنه كشف عن قضايا فساد تتركز في الجزء الأكبر منها داخل الولايات المتحدة والأميركتين، ومع هذا وصف «الفيفا» بالمؤسسة الإجرامية. من ناحيته، يواجه ورنر واحدة من الاتهامات القليلة التي تطال «الفيفا»، وذلك بأنه حصل على رشوة بقيمة 10 ملايين دولار للتصويت لصالح جنوب أفريقيا كي تفوز باستضافة كأس العالم عام 2010. وينفي ورنر هذه الاتهامات، وكذلك الفريق الرسمي الذي تقدم بملف جنوب أفريقيا خلال الترشح لاستضافة البطولة. ولا يزال في منزله بترينيداد ويخوض صراعاً ضد قوانين الترحيل في بلاده. ولا تزال تلك الاتهامات قائمة دون حسم، وكذلك الادعاء الجديد حول تلقي ليوز وتيكسيرا وغروندونا رشى من جانب شخص ما للتصويت لصالح قطر. والتساؤل المحوري هنا هل يقوم هذا الاتهام على أي أساس صلب أم أنه مجرد قول يتعذر إثباته بحق مسؤول رفيع سابق بـ«الفيفا» رحل عن دنيانا ولم يعد بمقدوره الدفاع عن نفسه. وثمة تساؤل آخر يتعلق بما إذا كان مكتب التحقيقات الفيدرالي، (إف بي آي)، سيمضي في التحقيق في هذا الأمر.
مشاركة :