موجة غضب جديدة في المغرب، خلفها هذه المرة موت مأساوي لشخصين كانا يستخرجان الفحم من منجم مهجور، بحثا عن لقمة العيش. تحولت جنازتهما لمظاهرة كبيرة، فهل يتحول غضب جرادة إلى حراك جديد كما وقع في الريف؟ وكيف ستتفاعل الدولة؟ احتجاجات لشباب مغربي (أرشيف) جرادة، مدينة صغيرة بشمال شرق المغرب، لم يكن يُسمع عنها الكثير حتى داخل المغرب نفسه قبل يوم الجمعة (22 ديسمبر/ كانون الأول 2017). ففي ذلك اليوم وقعت حادثة وفاة لشقيقين يبلغان من العمر 23 و30 عاماً، داخل منجم فحم حجري مهجور، أثناء استخراجهما الفحم. وفاتهما خلفت غلياناً شعبياً واحتجاجات غاضبة في هذه المدينة المنجمية السابقة، الواقعة على بعد 60 كيلومترا من وجدة، كبرى مدن الشرق المغربي. ووصل الغضب إلى حد رفض الأهالي دفن الضحيتين في بداية الأمر، وتحولت جنازتهما إلى مظاهرة شارك فيها أزيد من عشرة آلاف شخص في مدينة، لا يتجاوز عدد سكانها 45 ألف شخص. احتجاجات جرادة وشرارتها ذكرت بـ"حراك الريف"، الذي انطلق أيضا إثر وفاة بائع السمك محسن فكري في حاوية قمامة، واستمر لشهور عرفت اعتقال عدد من قيادات الحراك والمشاركين فيه، وعلى رأسهم ناصر الزفزافي، الذي يقبع حتى الآن في السجن. فهل يمكن أن تتحول احتجاجات جرادة إلى حراك على غرار ما بات يعرف بحراك الريف؟ أين تكمن نقاط التشابه والاختلاف وكيف ستتعاطى الدولة المغربية مع هذه الاحتجاجات هذه المرة؟ غياب بديل اقتصادي آخر يقول الصحافي المغربي رشيد البلغيتي في حوار مع dw عربية إن الأزمة في جرادة تعود لفترة التسعينات، عندما أُغلق منجم كبير كان يمتص البطالة في المدينة وحتى في المناطق المحيطة بها ومدن أخرى من المغرب. وخلفت هذه الممارسة المنجمية المكثفة في المنطقة أناسا لا يتقنون سوى هذه الأنشطة، وبالتالي مع إغلاق المنجم وانتشار البطالة والفقر، وفي غياب بديل اقتصادي أصبح الناس مضطرين لاستخراج الفحم بطرق غير مشروعة وبيعه لجهات تتكلف من جانبها ببيعه في مختلف مناطق المغرب بأضعاف سعره، يتابع البلغيتي. الآن ورغم مرور نحو أسبوع على الحادثة، مازالت الاحتجاجات مستمرة في جرادة فاليوم الخميس (28 ديسمبر/ كانون الأول) اعتصم حوالي 10 آلاف شخص في ساحة بلدية المدينة، يطالبون بالتحقيق في موت الضحيتين ومعاقبة المسؤولين وإيجاد بديل اقتصادي للمدينة بعد إغلاق المنجم فيها عام 1997، بالإضافة إلى التعويض مع جبر الضرر بأثر رجعي، حسبما صرح لـdw عربية هشام حماني، وهو فاعل جمعوي مشارك في المظاهرة. ويضيف حماني بأن السكان يطالبون أيضا بإيجاد حل لمشكلة فواتير الكهرباء المرتفعة وتفعيل الاتفاقية الاجتماعية لسنة 1989. ويقصد بذلك اتفاقا جرى بين المركزيات النقابية، التي كانت تمثل عمال المنجم في جرادة عندما جاء قرار إغلاقه وكان من بنودها إيجاد بديل اقتصادي للمدينة وهذا البند لم يتم تفعيله منذ 1998 إلى حدود الساعة وهذا ما يطالب به السكان الآن كما يقول حماني. ويلقي رشيد البلغيتي على الدولة باللوم في انتعاش هذه الأنشطة المنجمية غير المشروعة قائلا "إذا كانت الدولة نفسها من أغلقت المنجم وهو المورد الرئيسي للمنطقة فكيف تعطي تراخيص لمن يبيعون الفحم لأن هؤلاء هم من ينعشون هذه الممارسات في ظل ما يعاني منه السكان من فقر وبطالة؟" ويؤكد البلغيتي أنه "ينبغي على الدولة أن تكون واضحة، فإذا كانت تحتاج الفحم فيجب عليها أن تقنن وتؤمن سلامة هذه الأنشطة المنجمية أو أن تتنازل كليا عن الفحم وتتجه لمصادر أخرى للطاقة وبالتالي لا تعطي تراخيص لمن يبيعون الفحم وإلا فستبقى نفس المشكلة". تعددت المناطق والمطالب واحدة ورغم كونها احتجاجات محلية في منطقة صغيرة إلا أن ما تشهده جرادة يأتي في سياق من الحراكات والمظاهرات، التي يعرفها المغرب مؤخرا في عدد من المناطق، متباعدة في ما بينها جغرافيا، لكن شكلها ومطالبها متشابهة: أعداد غفيرة من المواطنين تخرج بشكل يومي وعفوي دون تأطير من أحزاب أو هيئات نقابية أو غيرها وتحمل مطلبا رئيسيا هو التنمية الاقتصادية ورفع التهميش. شكل احتجاجي جديد مختلف إلى حد ما عن تلك المظاهرات، التي عرفها المغرب إبان فترة "الربيع العربي"، بقيادة حركة 20 فبراير، التي كانت تركز على مطالب سياسية. ويقول البلغيتي إن وفاة الشقيقين ليس الحادث الأول من نوعه، فالمنطقة معروفة بمثل هذه الحوادث والضحايا ليسوا دائما من عمال المناجم بل حتى أطفال صغار، كما حدث مع طفلة وقعت في بئر تابع للمنجم السابق وتوفيت. لكن الشرارة التي أطلقت هذه المظاهرات هذه المرة حسب اعتقاد البلغيتي هو "خطأ فادح" ارتكبه محافظ المنطقة، عندما حاول دفن الجثتين ليلاً في السر في محاولة منه لاخماد الغضب وإمكانية تحول الجنازة لمظاهرات، خاصة أن المنطقة بدأت تشهد مظاهرات سابقة للحادث بسبب غلاء فواتير الكهرباء. لكن ذلك جاء بأثر عكسي، كما يقول الصحافي المغربي، فقد حاصر السكان مستودع الأموات والمقبرة رافضين أن يتم الدفن دون الحصول على وعود بتحسين أوضاعهم. ومع تحول الحادثة إلى قضية رأي عام اهتمت بها وسائل الإعلام وكذلك مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، توجه البعض إلى مقارنة حراك الريف باحتجاجات جرادة، وجرى التركيز مثلاً على مسألة الأعلام، حيث اقتصر الأمر في جرادة على رفع أعلام مغربية وصور الملك، بينما رفعت في حراك الريف أيضا أعلام "جمهورية الريف" وصور الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي، وهو ما جعل البعض وقتها يتهم قادة الاحتجاجات بـ"الانفصاليين" ما أجج الأوضاع أكثر. ويقول عبد العلي حامي الدين، القيادي بحزب العدالة والتنمية، قائد الائتلاف الحكومي، إن ما عرفته وتعرفه مناطق متفرقة في المغرب من احتجاجات تطالب كلها بتحسين الأوضاع المعيشية وخلق فرص عمل ورفع التهميش تدل على مشاكل عميقة يعرفها المغرب وترتبط بفشل النموذج التنموي، الذي اتبعته البلاد منذ الاستقلال. وهذا النموذج وصل إلى نهايته ويجب أن يتغير، كما يقول حامي الدين في تصريحات لـ dw عربية. هل تعلمت الدولة من أخطائها؟ يؤكد حامي الدين أن "الملك بنفسه أشار إلى هذا في خطابه الأخير، وهذا ما ينبغي العمل عليه: تشجيع وإطلاق المبادرات الفردية والانفتاح الاقتصادي على كل مناطق المغرب وليس فقط مدن المركز، وإعطاء صلاحيات أكبر للمؤسسات المنتخبة". ويعلق القيادي في الحزب الحاكم في المغرب على مسألة توجيه نداءات للملك بالتدخل عوضاً عن المسؤولين بالقول "الملك هو المسؤول عن استقرار البلد وهو ضامن الحريات والحقوق؛ ولكن لا يمكن الاعتماد عليه في كل ما يحدث. المفروض أن هناك مؤسسات في الدولة وهي التي يجب أن تتدخل وهذه المؤسسات يجب أن يعاد إليها الاعتبار". "طحن" بائع سمك في الحسيمة كان قد أشعل حراكا في الريف امتد لشهور وعمَّا إذا كان تعامل الدولة يراعي الدروس المستخلصة من حراك الريف وما تلاه من احتجاجات وحوادث مشابهة في مناطق أخرى، يقول عبد العلي حامي الدين "بدون شك يجب أن تستفيد الدولة من التجارب السابقة، ورأينا أنه تم استدعاء وزير الداخلية ووزير الطاقة والمعادن لفهم أسباب وحيثيات ما وقع. وطبعا لا يجب تكرار نفس الأخطاء". ويرى القيادي بحزب العدالة والتنمية أن "تكرار الاحتجاجات في أكثر من منطقة لنفس الأسباب الاقتصادية والاجتماعية يدل على الحاجة لحل جذري ورجة كبيرة وإلا فسوف نشهد ما هو أسوأ"، حسب تعبيره. ويدعو حامي الدين إلى "وجوب الاعتماد على الحوار وتجنب المقاربة الأمنية وإطلاق برامج تنموية لاستيعاب آلاف العاطلين". ويؤكد أن على الجميع تحمل مسؤولية ما يحدث "سواء الدولة أو القطاع الخاص أو النخب السياسية والمؤسسات العمومية فالاستقرار له كلفة يجب أن يتحملها الجميع". ويرى الصحافي رشيد البلغيتي أن الدولة أصبحت تتعامل بشكل مختلف مع الاحتجاجات، التي تعرفها أو قد تعرفها بعض المناطق "فمثلاً تم تشكيل لجنة لتباحث ما وقع وجرى الانتباه لبعض الأمور، مثل إرسال مساعدات للمناطق المعزولة بسبب التساقطات الثلجية، كما أن هناك أيضا محاولة للسيطرة على الكوارث الطبيعية كالفيضانات مثلا". ويضيف البلغيتي: "يعلمون أن الوضعية حرجة ويريدون تفادي كل ما من شأنه إثارة حالات احتقان جديدة". غير أن هذا لا يكفي، من وجهة نظر الصحافي المغربي "لأنه يجب معالجة الخلل البنيوي الهيكلي الذي تعاني منه الدولة وهو غياب الديمقراطية وغياب العدالة الاجتماعية"، حسبما ذكر لـDW عربية. ويتابع البلغيتي "نحن نعيش في نظام ريع، نظام يزكي الريع يستعمله من أجل الولاء. هناك مجموعة صغيرة من الناس تستفرد بالقرار السياسي كما بثروات البلد ومادامت غير مستعدة لتقاسمهما مع الشعب فسنبقى في نفس المشاكل". الكاتبة: سهام أشطو
مشاركة :