تضجّ جدالات الشباب العرب اليوم وأفكارهم حول الدين والسياسة والحياة والحكم على نحو يشجع على القول إن عالم العرب المقبل سيتغيّر بفعل الأفكار بطريقة أكثر جذرية وعمقاً مما أنتجته الثورات والصراعات المسلحة والعنيفة. هي حالة تذكر بالجدل الفكري الأوروبي في القرن الرابع عشر، كما يعرضه إمبرتو إيكو في روايته «اسم الوردة»، فهو جدل يشبه إلى حد كبير ما يدور اليوم من جدال في عالم العرب. واللافت أنها جدالات أنشأها في عالم الغرب ابن رشد الذي أُحرقت كتبه في قرطبة في حفل بهيج قبل الأحداث التي تتحدث عنها رواية إيكو بمئة وخمس وثلاثين سنة، وكان رجال الفكر الغربي كما يقول إرنست رينان منقسمين إلى رشديين وغزاليين. يقول متحسّراً أحد رهبان القرن الرابع عشر في رواية إيكو: لقد غيّر ابن رشد العالم، لكن ما حدث أن الغزاليين انتصروا في ضفّتي المتوسّط الشرقية والجنوبية، وانتصر الرشديون في الضفة الشمالية، فتوقفت الحرّيات وتبعها الاجتهاد والتأليف والإبداع في الضفة الشرقية الجنوبية، وانطلق الشماليون في عزم وإصرار ضد الظلم والوصاية والتقليد. في القرن الحادي عشر، ذهب أورلياك الذي صار البابا سيلفستر الثاني إلى الأندلس بحثاً عن علوم العرب لنقل إنتاجهم الفلسفي والعلمي، ونهضت حركة واسعة للحريات والفنون والترجمة. ولحسن الحظ، فإن كثيراً من كتب ابن رشد التي أُحرقت كانت قد تُرجمت إلى اللاتينية والعبرية، وهناك حوالى 25 كتاباً لابن رشد من التي نقرأها اليوم بالعربية إنما تُرجمت من اللاتينية والعبرية، بما فيها أهمها جميعاً وهو كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال». كان التصوّر الغربي عن عالم العرب أنه متقدّم أكثر مما هو في الواقع، وكان طلبة العلم المتلهفون للعلوم العربية يتصوّرون كما يقول إيكو أن يتمكن الإنسان من استخدام آلات ملاحة تجعل السفن تُبحر بقيادة رجل واحد، وستكون هناك عربات لا تجرّها دواب وتسير بسرعة عظيمة، وآلات تطير في السماء مثل الطيور ويركب فيها الإنسان، وآلات ترفع أثقالاً لا حدّ لها، ومراكب تسير في قاع البحر... يسأل الفتى أستاذه: وهل هذه الآلات موجودة؟ فيجيبه: كانت موجودة من قبل واختفت، لكن لا تغتمّ إن لم تكن موجودة، وأقول لك الربّ يريدها أن تكون موجودة، ولم يجدوا عند العرب بالطبع شيئاً من ذلك، لكنهم وجدوا لديهم إبرة عجيبة تعمل لوحدها فتؤشر دائماً إلى الشمال، تمكّنوا بفضلها أن يُبحروا بسفنهم في البحار البعيدة المظلمة ويصلوا إلى أماكن بعيدة جداً وراء البحار قبل أن يعودوا إلى ديارهم. والحال أن الغربيين تعلموا أن يبحثوا ويفكروا أكثر مما تعلموا من المنتجات والتقنيات الجاهزة، ربما استفادوا من الأدوية والمستحضرات وكتب العلوم والطب، مثل القانون لابن سينا، لكن الحدث الأكبر هو الجدل الفلسفي والفكري الذي انطلق، ولم توقفه كل محاكم التفتيش والبطش. يقول الفتى لأستاذه: أظن أنني لم أعد قادراً على تمييز الفوارق بين أتباع الفكر الحُرّ والمقلّدين، فماذا أفعل؟ يردّ الأستاذ: إن الخلاف ليس بين مذاهب وأفكار، لكنه بين المهمّشين والمتسلطين، فكل الهرطقات التي نحاربها راياتُ إقصاء، وأما التفريق بين ما هو صحيح وما هو باطل فليس سوى ألعاب نلهو بها نحن رجال الفكر، وأما البسطاء من الناس فلهم مشكلات أخرى يحلّونها بطريقة خائطة، ولذلك يصبحون هراطقة، ولذلك كانت الكنيسة تعترف بالهرطقات التي أصبحت قوية ولها أتباع كثيرون، ولا يُستحسن أن تظل في صفوف أعدائها. وقد ساعدت الحكومات المدنية الهراطقة وشجّعت كُثُراً من عامة الناس على أن يكونوا وعّاظاً يُزاحِمون القسّيسين والكهنة في عملهم، ثم أعانت الكنيسة عليهم ومكّنتها من حرقهم! * كاتب أردني
مشاركة :