أمام حشد من الطلاب في كلية لندن الجامعية، ظهر مؤخراً وزير المالية اليوناني السابق والخبير الاقتصادي يانس فاروفاكيس متشائماً بشأن واقع النظام الاقتصادي العالمي ومستقبل الرأسمالية في ظل التطور الهائل بتكنولوجيا المعلومات. فحسب وجهة نظر فاروفاكيس، فإن الرأسمالية تقترب من نهايتها، وذلك ليس بسبب بروز نظام اقتصادي منافس لها؛ بل بسبب التآكل الذاتي للرأسمالية الآخذ في الاتساع تدريجياً، حيث "تجعل [الرأسمالية] من نفسها شيئاً عفى عليه الزمن"، خصوصاً في ظل الطفرة الحاصلة في استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وتكتسب لهجة فاروفاكيس نبرة تشاؤمية وتوحي بالنقيض مما ساد زمن الرواد الأوائل من أفكار حول الإنترنت وأثرها المحتمل في رفاهية البشر على الصعيدين الاقتصادي والفكري. ففي الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، راح أتباع الحركات الثورية (الهيبيين على سبيل المثال) يروجون لفكرة مؤداها أن انتشار أجهزة الكمبيوتر الشخصية الموصولة بالإنترنت سوف يخلق عالماً يسمو فوق العقبات الاجتماعية والشخصية، ويؤسس لثقافة سلمية مشتركة، وبلوغ عالم روحي تكون فيه المُثل العليا لا المصالح الآنية لأصحاب رأس المال هي التي تحكم النظام الاجتماعي للبشر. لقد كان هناك أمل معقود على تكنولوجيا المعلومات بأن تكون الأداة الأكثر حسماً لصالح الحركات الاجتماعية المناهضة للرأسمالية وما تتضمنها من توجهات نفعية-استهلاكية. كان يمكن لهذه النظرة التفاؤلية أن تدوم فترة طويلة، وأن تتحول من مجرد آمال إلى حقيقية واقعية لولا الانتقال السريع لشبكة الإنترنت من كونها مجرد أداة للتواصل على نطاق محدود بين وحدات الجيش العسكرية أو بين الوحدات البحثية في بعض الجامعات بالولايات المتحدة، لتكون الشبكة الأوسع على الإطلاق للنشاط التجاري على مستوى العالم. بعبارة أخرى، لقد تحولت شبكة الإنترنت من كونها ملتقىً لتبادل الأفكار والآراء إلى مشروع تجاري يدرُّ الأرباح الهائلة على المنتفعين. غدت شبكة الإنترنت -مع مرور الوقت- الكمبيوتر العالمي الذي يسيطر على التعاملات الاقتصادية كافة على نطاق الكوكب. وقد حملت هذه التحولات أخباراً سارَّة للرأسماليين وأصحاب الشركات، حيث ساهم الانتشار الواسع لتكنولوجيا المعلومات -الذي ترافق مع تنامي التزعات الانفتاحية والاعتمادية المتبادلة لليبرالية الحديثة- إلى فتح الباب على مصرعية أمام تدفق رأس المال عبر الحدود للاستثمار التراكمي غير المحدود. لقد عززت هذه التوجهات التراكمية لرأس مال الإنترنت تنامي الفجوة الاقتصادية، ليس بين من يملكون (The haves) ومن لا يملكون (The have -nots)، أي بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال؛ بل أيضاً بين من يعرفون ومن لا يعرفون؛ ذلك أن اقتصاد المعرفة -وهو الاقتصاد الذي تغذيه شبكة الإنترنت- أصبح يعتمد شيئاً فشيئاً -وبشكل ملحوظ- على أصحاب المعرفة وأصحاب التدريب الجيد، وعليه فقد أصبح التقسيم بين الطبقات يحدث وفق الأنماط المعرفية وليس الأنماط المادية كما كان الحال في فترة اقتصاد المهارة، الذي ساد مع اختراع الآلة الميكانيكية وانتشارها. لقد كان تأثير شبكة الإنترنت على نمو الإنتاجية هائلاً، وأصبح اقتصاد تزايد العائدات يمنح الشركات قدرة تنافسية أكبر، ومقدرة على تكديس رأس المال بشكل يفوق جميع التقديرات. باختصار، أصبح بالإمكان رصد 3 انعكاسات جوهرية لتكنولوجيا المعلومات على الشركات ذات الاعتماد الشبكي: أولاً، الكفاءة المتناهية؛ وثانياً، الانتشار العالمي؛ وثالثاً، العوائد المتزايدة. ترتب على هذا التحول في المقاربة الإنتاجية ذات الاعتماد الرقمي نتائج مباشرة على عدة مستويات، من أهمها ربما تلك الفجوة الاقتصادية الآخذة في الاتساع بين الدول المتقدمة (developed countries) والدول النامية (developing countries) على مستوى المعرفة الرقمية؛ ومن ثم على حجم المنافع الاقتصادية المترتبة عليها. ففي الدول النامية، ما زال الوصول إلى الإنترنت منخفضاً؛ فمن بين 100 شخص يسجل ما نسبته 4.4 منهم فقط دخولاً للشبكة العنكبوتية. أما في الدول المتقدمة، فتصل النسبة إلى نحو 26.6 لكل مائة شخص . وقد ذهب العديد من الخبراء الاقتصاديين إلى اعتبار أن هذه الفجوة -مع اتساعها المتواصل- قد تشكل سبباً لايجاد بيئة أمنية غير مستقرة؛ حيث تعمل ظاهرة "المساواة الغائبة" كمحفز للشعوب النامية ولحكوماتها على الالتجاء إلى استخدام الإنترنت كوسيلة لضرب مصالح الدول المتقدمة والشركات التابعة لها، وربما من هذا الباب يبدو الأمر غير مستغرب أن يكون أكثر الناس احترافاً للقرصنة الإلكترونية متمركزين في دول العالم الثالث. في الحقيقة، لا تقتصر الفجوة المعرفية التي خلقتها شبكة الإنترنت على مستوى النظام؛ أي بين الدول المتقدمة والدول النامية؛ بل هناك فجوة معرفية أخرى أخذت تتشكل داخل المجتمعات المنتمية إلى دولةٍ ما من الدول بغض النظر عن الموقع الذي تتمركز به هذه الدولة داخل النظام الدولي. فلنأخذ على سبيل المثال المجتمع الأميركي. فقد أظهرت دراسة أعدها مركز بيو (Pew Research Center)، أن 95% من الأسر ذات الدخل المرتفع في الولايات المتحدة تستخدم الإنترنت لغرض من الأغراض، بينما يمتلك 57% من الأسر الفقيرة فقط رفاهية الوصول للإنترنت. كما أن 79% من الأسر ذات الدخل المرتفع يمتلكون الحواسيب المحمولة مقارنة بـ47% فقط من الأسر الفقيرة. وهذه الأرقام تشير إلى أن الأسر ذات الدخل المرتفع تتمتع بفرص أكبر في تنمية مواردها المالية والادخار؛ نظراً إلى قدراتها الأكبر على الوصول إلى الإنترنت وتوظيف المهارة التي يمتلكونها في استثمار أكثر فاعلية للبرمجيات المعروضة على الشبكة العنكبوتية. وهذا ما أثبتته الأرقام على وجه الخصوص؛ فقد بقيت حصة الأسر الأميركية الأكثر ثراء -ونسبتها 10%- من إجمالي الدخل ثابتة عند نحو 32% في المدة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام 1980، ولكنها بدأت بالارتفاع التدريجي منذ ذلك التاريخ حتى وصلت إلى 34% في عام 1985 ثم بلغت 43% في عام 2004. ومن الجدير ذكره هنا، أن عام 1980 الذي شهد بداية الارتفاع التدريجي في الدخل للأسر الغنية هو نفسه العام الذي شهد انتشار الحاسوب الشخصي PC على نطاق واسع. أما حصة طبقة أغنى الأغنياء في المجتمع الأميركي والتي تبلغ نسبتها 1%، فالأرقام تصبح حقاً مدهشة. فبحلول عام 2004، بلغ نصيب هذه الطبقة من الدخل 16% من إجمالي الدخل العام، بينما كان يبلغ 8% فقط في نهاية السبعينيات من القرن العشرين. وقد انعكس هذا التفاوت على متوسط الرواتب التي يتقاضاها كبار المديرين التنفيذيين مقارنة برواتب الموظفين العاديين. فقد بقيت رواتب المديرين ثابتة تقريباً من أواخر الحرب العالمية الثانية إلى أواخر السبعينيات، حيث بلغت في المتوسط ما يساوي 25 ضعف دخل الموظف العادي. ولكن بحلول عام 2004، بلغ راتب المدير التنفيذي المتوسط ما يساوي 104 أضعاف دخل الموظف العادي، أما الأعلى دخلاً من المديرين التنفيذيين وتبلغ نسبتهم 10%، فيبلغ راتب الواحد منهم ما لا يقل عن 350 ضعف راتب الموظف العادي. ورغم اختلاف علماء الاقتصاد في الأسباب التي أدت إلى تفاوت الأجور بهذه الطريقة الكبيرة، وتكدُّس رأس المال بيد حفنة قليلة من الناس، فإنهم مُجمعون على أن التحول إلى استخدام أجهزة الكمبيوتر وشبكة الإنترنت قد أديا دوراً محورياً وهاماً في هذا المجال. فلقد عززت شبكة الإنترنت من توجه كان قد بدأ في وقت سابق إبان انتعاش الثورة الصناعية، ويقضي بتركيز الثروة في يد حفنة من الأفراد وليس بيد الشركات الكبرى، وهو الأمر الذي سوف يؤدي إلى تآكل تدريجي -ولكن مستمر- للطبقة الوسطى، ويعمل على اتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء. وفي هذا الصدد، يرى عالم الاقتصاد المعروف جاجديش بهاجواتي أن التحول إلى استخدام الكمبيوتر هو السبب الرئيسي في حالة الركود التي تشهدها أجور أفراد الطبقة الوسطى، حيث يقول: "ثمة أنظمة تجميع اليوم ولكنها دون عمَّال؛ إذ تديرها أجهزة كمبيوتر في قفص زجاجي معلق ويشرف عليها مهندسون يتمتعون بمهارة عالية. في الأحوال العادية، يؤدي بدء استخدام ابتكار جديد يهدف إلى توفير العمالة، إلى خفض الأجور مؤقتاً إلى أن ترفعها من جديد الزيادة المترتبة على ذلك في الإنتاجية. ولكن مع تكنولوجيا المعلومات، بات الأمر مختلفاً، فعلى العكس من الابتكارات السابقة التي أحدثت تغييرات قائمة بذاتها كالمحرك البخاري، فإن التقدم المستمر الذي تشهده تكنولوجيا الكمبيوتر يقضي على فرص العمالة؛ فإحلال أجهزة الكمبيوتر محل العمالة أضحى مستمراً وأصبح الضغط المتواصل على الأجور متواصلاً". نعود من جديد إلى فاروفاكيس، الذي عبر عن تخوفه الشديد من أن تكنولوجيا المعلومات تقضي على الوظائف أكثر بكثير من قدرتها على خلق وظائف جديدة، فأجهزة الحاسوب أصبحت تحل محل العقل العامل وليس فقط الأيدي العاملة كما فعلت الآلة من ذي قبل، وبذلك تكون شبكة الإنترنت قد استطاعت لأول مرة في التاريخ الحديث أن تفرض تهديداً حقيقياً للدورة المالية للرأسمالية والمكونة من رأس المال، والأيدي العاملة، والمواد الخام. فلا حاجة لمواد خام لعملية لا تقوم على التصنيع؛ بل على معالجة البيانات، بينما تتضاءل أهمية الأيدي العاملة في ظل وجود أجهزة كمبيوتر فائقة السرعة والكفاءة، وبذلك نصل إلى فهم المعنى الذي أراده فاروفاكيس في مطلع المقال حول اقتراب الرأسمالية من نهايتها حينما تجعل من نفسها شيئاً عفى عليه الزمن. ولكن تبقى الخطورة ليست في زوال الرأسمالية وحسب؛ بل في البديل عنها، الذي ما زال مجهولاً تماماً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :