«ليالي السَّعَدْ».. دفء الوصال وعذوبة الحياة

  • 1/2/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بقلم: محمد نور الدين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، شاعر من شعراء الصف الأول في الشعر النبطي ولا يعرّف في هذا المجال كونه من مؤسسي الحركة الشعرية الحديثة في الشعر النبطي، وتتصدر قصائده منذ الثمانينات واجهة المشهد الشعري لأسلوبها الخاص، الذي كان التجريب من أولوياته ومن أدواته التي لم يتنازل عنها، لذلك تجده مواكباً للأجيال المختلفة ومحتوياً أطرافاً مختلفة، فالتقليدية والحداثة من ناحية، والعفوية والتجريب من ناحية أخرى وعمق المعنى وسهولته الممتنعة أيضاً، وأخيراً وليس آخراً، الاشتغال على المبنى والحفاظ على الهوية الأصيلة، كل ذلك تجده عند الشاعر الفارس وتلامسه من قرب.وفي القصيدة المنشورة في أول بزوغ لعام 2018 والتي سنتناولها في هذه العجالة، أحتاج إلى عشرات الأوراق كي أدون قراءتي الأولى التي قد لا تفيها حقها من البحث والتحليل والاستكشاف. أولا البناء: 1. القافية:جاءت القصيدة في قالب المربوعة وبأربع قوافٍ مختلفة وبحسب حرف الروي نستطيع أن نقول إن قافية الشطر الأول مقيدة لسكون حرف الدال كما نلاحظ في «سعَدْ، شهَدْ، جسَدْ...» والقافية في الشطر الثاني أيضاً مقيدة ولسكون الحرف نفسه، كما نلاحظ في «غَرَّدْ، آتشَهَّدْ، مجَرَّدْ...» ولكن القافية في الشطر الثالث مطلقة لحركة حرف اللام كما نلاحظ في «كلِّهْ، علِّهْ، يسِلِّهْ،...» وبين قافيتي الشطر الثاني والثالث نجد عنصراً مشتركاً وهو وجود الشدة على الحرف قبل الأخير أي حرف ما قبل الروي في القافية الثانية وحرف الروي في القافية الثالثة، وأما قافية الشطر الرابع فإنها ترجع لتكون مقيّدة لسكون حرف اللام ويسبق حرف الروي الياء الممدودة كما نلاحظ في «السِّليلْ، العِليلْ، يسيلْ...» وهنا تتضح أمامنا النظرة الأولى فغلبة القوافي المقيدة واضحة في سياق القصيدة وبتتبعنا الحروف الأخيرة للقافية وحركاتها نجد أن أول شطرين ينتهيان بحركة الفتح قبل حرف الروي أي الدال الساكنة، وبينما آخر شطرين ينتهي الأول منهما بكسر حرف الروي - حرف اللام في كلِّهْ، علِّهْ، يسِلِّهْ،...- وينتهي الثاني بالياء الممدودة، والياء الممدودة نستطيع أن نعتبرها حركة كسرة مضاعفة أيضاً، ومن هذه الزاوية نجد في كل بيتين أن الشاعر يبدأ في أول شطرين بحركة الفتح وتقييد القافية وينتهي في آخر شطرين بحركة الكسرة أو إطلاق القافية كما في الشطر الثالث أو تعويضها بياء ممدودة أي حركة كسرة مضاعفة كما في الشطر الرابع، وقد يرى البعض أن حرف الروي في قافية الشطر الثالث من الصعب نطقها بالكسرة ولكن أضاف الشاعر إلى حرف الروي حرفاً آخر مشهوراً بأنه يفرغ الهواء من الصدر أي حرف الهاء كي يقنعنا بالاستنتاج التالي. فهذا التناغم يشبه حالة الشهيق والتكتم في أول شطرين وحالة الزفير في الشطرين التاليين، والاستمرار بهذا الأسلوب الثنائي يشبه ركضة الخيل الثنائية مع وجود أنفاس الخيّال المحترف الذي يمسك بالزمام ويحاول أن يصل بالحصان إلى آخر أبيات القصيدة بسرعة عالية -حسب الأشطر القصيرة- وبأقصر مدة، وفي هذا المضمار يمرّ الشاعر بطرق وعرة كثيرة تعرقل حركة سيره ولكن لن تقف عائقاً في وجهه أبداً، وهذا ما سنراه في تحليلنا للمعنى لاحقاً. 2. الوزنجاءت القصيدة على وزن مميز وهو «فاعلاتن فعل» للشطر الأول و«فاعلاتن فعولن» للشطر الثاني والثالث وأخيراً «فاعلاتن فعول» للشطر الرابع، ومن الوهلة الأولى نجد أن الحشو أي «فاعلاتن» تتكرر في كل الأشطر بالتزام تام بينما التفعيلة الأخيرة تتغير ولها ثلاثة أوجه مختلفة وهي «فعل، فعولن، فعول» وبما أن هذه التفعيلات الثلاث هي نفسها أوزان للقوافي التي ذكرناها في الفقرة السابقة فإن هذه الحركة الثلاثية تبدأ بأقصر تفعيلة في الشطر الأول «فعل» وتنتقل إلى تكرار أطول تفعيلة «فعولن» في الشطر الثاني والثالث وتنتهي بالتفعيلة المتوسطة «فعول» في الشطر الرابع وهذا أيضاً يتناسق مع رئة القصيدة حيث عملية إدخال الهواء أسرع ويبدأ من القاع «فعل» ويصل إلى القمة «فعولن» بينما عملية تفريغ الهواء يبدأ من القمة «فعولن» وينتهي في القاع «فعول» وقد يكون اللام في «فعول» نقطة إعادة شحن لاستنشاق هواء جديد مرة أخرى.وبالمقارنة بين حالة الوزن والقافية نجد أن هناك ثلاثية تميل لأن تكون ثنائية في الأشطر الأربعة مع بعض الاختلافات البسيطة وهذا التنسيق قد لا يكون مقصوداً ولكنه مؤشر مهم جداً عن الشحنة النفسية التي يشكلها الشاعر في بنية القصيدة وتنتقل هذه الشحنة إلى المستمع ويجد نفسه يجري في مضمار قصيدة الشاعر، وقد شبهنا ذلك بالفارس الذي يمتطي صهوة حصانه وما زال الشاعر كذلك كما يعكس وزن القصيدة. 3. المعنىتنقسم القصيدة إلى نصفين متساويين في عدد الأبيات، ففي القسم الأول الذي يبدأ من بداية القصيدة نجد الشاعر واصفاً للمشاعر وللجمال لدرجة أنك تحس بدفء الوصال وعذوبة الحياة، ولكنه في الحقيقة استحضار للحظات الجميلة التي كان فيها بجوار المحبوب وتعبير عن المشاعر الصادقة التي كان وما زال يحملها إلى الآن.فخطاب «يا ليالي السعد»، و«ليالي السعد» أيضاً عنوان القصيدة - هو مدخل فني لاستحضار تلك الليالي التي مضت، ولكن الشاعر لن يصرح بأن ذلك انتهى من بداية قصيدته، بل بالعكس يشعرنا أنه يعيش اللحظة عندما يقول «طائر الشوق غرّد»، بينما في الواقع فإنه يتحدّث عن شوقه إلى الماضي وهذا الشوق الجارف هو السر في كتابة القصيدة فمن خلاله يفرغ شحنة الإحساس في دفقات شعورية متتالية ومليئة بالصور الوصفية في الأبيات التالية:يا ليالي السَّعَدْ             طايرْ الشُّوقْ غَرَّدْوالهوىَ الحلوْ كلِّهْ              عندْ ظبيْ السِّليلْطَعمْ ريقَهْ شهَدْ              منْ آذوقَهْ آتشَهَّدْبهْ شفا ألفْ علِّهْ               وأنا منهْ العِليلْ فالشاعر الفارس كما تشكّل وصفه في تحليل بناء القصيدة هو المحب، بينما المحبوب هو «الظبي السليل» أي الذي يصرح به منذ البيت الأول وقد يكون رمزاً ينطوي فيه أكثر من معنى، ولكن ظاهرياً نجد الظبي في بيئته الأصلية هنا ويفترض أن يكون قريباً من الشاعر، ويصفه الشاعر بأوصاف في غاية الجمال بدءاً من «طعم ريقه»:طَعمْ ريقَهْ شهَدْ          منْ آذوقَهْ آتشَهَّدْبهْ شفا ألفْ علِّهْ           وأنا منهْ العِليلْ فطعم ريقه الموصوف بـ «شهد» يشفي ألف علة لكن الطعم نفسه هنا أصبح سبباً في علة الشاعر وهذا التناقض يأتي من طريقة التناول، لأن الأول قوم يشفيهم طعم ريقه لأنهم يأخذون من ذلك حسن القول وطيب الخلق، والثاني شخص يقتله نفس تذوق ذلك الطعم كما أشار في «من أذوقه آتشهد» لأنه يبحث عن القرب وشتان ما بين يتدفأ بالجمر ومن يمشي عليه، لذلك فإننا مع فارس مغامر ومبادر لا يخاف المواجهة:مَعْهْ روحْ وجِسَدْ       لوُ جِرَحْنا مجَرَّدْما درَىَ منْ يسِلِّهْ            أيْ دَمٍّ يسيلْ فمهما كانت ردة فعل المحبوب قاسية كحد السيف فإن الفارس يهوى المبارزة، وهذه المبارزة كما أشار من نوع خاص تتحد فيها الأرواح والأجساد فبدلاً من الانفصال بين طرفي الصراع نجد الجرح وإسالة الدماء في هذه الأشطر ليس لأجل امتزاج الاثنان جسدياً، وإنما هو إقصاء الجسد لأجل سمو الروح والتعالي، وكأن المحبوب تجرّد قبله من الجسد وآن الأوان كي يتجرد الفارس من عالم المادة منطلقاً نحو عالم تتسامى فيه الأرواح. ولكن ليس من السهل أن يبلغ أي شخص تلك المنزلة دون مروره بمراحل عدة وهي مراحل يحتدم فيه صراع الجمال والفكر:ظَبي بَطْشِهْ أسَدْ           في بعادِهْ تِعَمَّدْذابحنِّي بدلِّهْ      وحشْ وجههْ جميلْما سليتِهْ أبَدْ          عَ غرامَهْ معوَّدْفي فوادي محَلِّهْ        بينْ صبحْ ومقيلْبالجمالْ إنفرَدْ           كَنْ زينهْ مخَلَّدْفي دلالهْ ودِلِّهْ            ما لمثلهْ مثيلْفَردْ يسوىَ بَلَدْ           منْ أشُوفَهْ آتبَلَّدْمُورَدْ القلبْ لأجْلِهْ           كوثَرْ وسلسبيلْبهْ دوىَ للرِّمَدْ    ريقَهْ في طَرْفْ مروَدْالشِّفا لمنْ حصَلْ لهْ            كِلِّ علَّهْ يزيلْ يختصر عبارة «ظبي بطشه أسد» صراع الغريزة والجمال والفكر فالظبي هو الطريدة التي يصطاد لسد الغريزة وإشباعها والظبي أيضاً رمز الجمال للعيش والتفاعل الشعوري معه، وأما بطش الأسد هنا فرمزٌ للفكر والعناد أي الإصرار على المنهج الفكري، والشاعر أراد تصوير المشهد الفكري والشعوري والغريزي في لوحة واحدة، وقد كان له ذلك.لذا يجد الشاعر نفسه أمام تحديات كثيرة يجتازها واحداً تلو الآخر فبعد بطش المحبوب نجد دلال المحبوب ثم ابتعاد المحبوب وكلها يتخذها الشاعر تحديات، إن لم يستطع اجتيازها نجده يتأقلم معها، ويبدأ بعد ذلك بوصف جمال المحبوب مرة أخرى لأن الشعور يستثار حينما لا يكون الظبي في متناول صياده وأكثر عندما لا يكون على مرأى نظره:ما سليتِهْ أبَدْ           عَ غرامَهْ معوَّدْفي فوادي محَلِّهْ          بينْ صبحْ ومقيلْبالجمالْ إنفرَدْ             كَنْ زينهْ مخَلَّدْفي دلالهْ ودِلِّهْ              ما لمثلهْ مثيلْفَردْ يسوىَ بَلَدْ            منْ أشُوفَهْ آتبَلَّدْمُورَدْ القلبْ لأجْلِهْ           كوثَرْ وسلسبيلْبهْ دوىَ للرِّمَدْ    ريقَهْ في طَرْفْ مروَدْالشِّفا لمنْ حصَلْ لهْ             كِلِّ علَّهْ يزيلْ وفي النصف الثاني من القصيدة تتغير لهجة الشاعر وكأن الهجر قد أخذ مأخذه منه ليبدأ لائماً المحبوب ومحاولاً التأثير على مشاعره كي يحس بما يجري على الشاعر، وهذه المحاولات ليست للعودة إلى سابق العهد وإنما هي طلب جدّي من الشاعر لخوض مرحلة جديدة فيها المشاعر منصاعة للفكر بعد أن عبرت المشاعر عبر مراحل قاسية جداً، لذلك ينتقل الحديث من وصف جمال المحبوب إلى طلب المساندة من المحبوب وصون المحبوب من الحسد وهي معانٍ تكاملية بعيدة عن الفردية:كنتْ أظنِّهْ سَنَدْ          لي عليهْ آتسَنَّدْوثَرهْ ما يسدِّ خلِّهْ       بالمواصَلْ بخيلْناظري ما رقَدْ     ولي بشوكٍ موَسَّدْوالمنامْ إستِخَلِّهْ        ذاكْ ليلهْ طويلْأحرسِهْ م الحسَدْ   مثلِ ها الزِّينْ يِحْسَدْمنْ يشوفَهْ يجلِّهْ     وصفْ زينهْ جليلالثنايا بَرَدْ          والشِّفايا توقَّدْوبالرِّموشْ المطلِّهْ      كمْ صريعْ وقتيلْ وفي الربع الأخير من القصيدة يفتح الشاعر الحوار مع المحبوب وكأنه التقى أخيراً بالمحبوب وأصبح لابد من بداية مختلفة، وبالطبع لن يكون ذلك قبل طي صفحة الماضي الذي بدأ المحبوب فيها بالعتاب، وهو عتاب للمحب الذي يطلب الوصال وكأنه لم يكن يجدد عهد الوصال كما كان يتأمل المحبوب، ولا يجيب المحب على هذا العتاب بل يعيد الطلب مرة تلو أخرى وهذا المعنى نجده في الأبيات التالية:طالبنِّهْ ورَدْ          بالمعاتبْ وجَدَّدْجيتْ شافي لَعَلِّهْ          بالمواصَلْ ينيلْمثلْ طلبَةْ ولدْ       لوُ إنعِطا شَيِّ عَوَّدْوالطَّلَبْ ما يمَلِّهْ        لوُ عطوهْ الجزيلْ لذلك يجب على المحبوب أن يستعد الآن لهذا السيل الجارف من الحب الصادق والعهد الوثيق، كون المحب أدرك تمام الإدراك أن التوحّد مع المحبوب لا سبيل غيره سيؤدي إلى السعادة الأبدية، وأيضاً المحبوب كان حاضراً في الطرف الآخر من العهد وقال كما جاءت في القصيدة «يا محمد لك أنا العمر كله» ولكن الأقوال لم تترجمها الأفعال، ولم يفِ المحبوب بالعهد وابتعد مخلفاً وراءه المحب وقاصداً تعذيبه بالهجران، ولكن لم يعد ذلك يجدي مع محب امتلأ قلبه بالمحبة وهو يعلم أن هذا الجهد والعناء ضريبة يجب دفعها والتعايش معها لأنها وسيلة لاستحضار المحبوب والتفاعل معه، وإثبات صدق المحبة وعمقها.ما وفا بالعَهَدْ       قالْ لي يا محمدْلكْ أنا العمرِ كلِّهْ           الموِدِّ الخليلْعافني وإبتعَدْ         ولعذابي تقَصَّدْوأنا روحي فداً لهْ         وما لحبِّهْ بديلْ واجه الشاعر في مسيرة القصيدة تحديات مختلفة وهي ظروف الحياة التي نعيشها، والحياة تمثلت في دور المحبوب كما تمثل الزمان قبل ذلك في دور الحصان، وعلى ذلك فإن عظمة هذه التحديات هي التي رسمت تجاعيد الوجوه ورسخت إيمان القلوب وخرّجت الرجال التي تطوّع الصعاب وتطوّع نفسها قبل كل شيء كي تسمو نحو الحب الحقيقي، لذلك رأينا انفصال الروح عن الجسد في قلب القصيدة ولم نر كما هو متوقع في نهاية القصيدة التقاء المحب بالمحبوب، بل وبالرغم من ابتعاد المحب عن المحبوب رأينا تلاقي الروح بالحب وهذا المعنى الكبير تعبير على أهمية القيم بعيداً عن الأفراد لأن القيم هي التي تبقى... والأرواح التي تحمل القيم تسمو وتعيش إلى الأبد:وأنا روحي فداً له             وما لحبه بديل

مشاركة :