في القانون الروماني القديم كان يحق لصاحب الدَّين أن يمتلك مدينَه كليةً، وأن يسترقه - يجعله عبدًا - ممتلكاً إياه، بل تعدى الأمر تلك المرحلة، بأن صار من الممكن أن ينفذ عليه بدنياً، وأن يجعل جسده موضع نزاع في مقابل المال المأخوذ على سبيل الدين ولم يرد. كان الدافع وراء ذلك توفير الردع ورد الحقوق لأصحابها بأن تسير العدالة في سيرها برد المال حين تأخذ. في قرية ساكسونيا قرروا محاكمة طبقة الأغنياء - عقب حالة ناقمة شديدة الوضوح للطبقات الأدنى - عن طريق تنفيذ العقوبة على ظله باعتبار الظل جزءاً لا يتجزأ من الشخص، وأن كل صاحب فعل عليه أن يتحمل فعلته. ومن الواضح أنهم أرادوا حماية مصلحة الطبقة العُليا، فقاموا باستخدام فكرة قانونية متقدمة لليّ عنق العدالة باستخدام القانون كوسيلة. من المثالين السابقين، نرى الترصد في أحدهما، والتعسف - مقصوداً في الأخرى - وكلاهما لم تغب مبادئ مُسماة كالحق والعدالة من الصورة، والتي بمرور الزمن، وبمزيد من التحضّر، حكم التاريخ عليها بمدى مجافاة تلك القوانين للأفكار التي قيل إنها نشأت لحمايتها. رُبما علينا أن نتفكر قليلاً في دروسِ الماضي سعياً نحو التقدم، ونظن ولو لبرهة قليلة بأننا ماضي مجتمع متقدم، سيحكم على قوانيننا بشكلٍ ما، فنعيد النظر فيما قررنا، ولنتخذ الملكية الفكرية مثالاً. قبل أن ننطلق مع مثالنا علينا أن نستوضح تفرقة هامة بين الفكرة أو المبدأ التي يجب حمايته، فالفكرة أو المبدأ هو "هدف" أو مفهوم كلي يراد تحقيقه أو الحفاظ عليه، بينما القانون "وسيلة" متبعة لحمايته وكذلك وسيلة لعدم الإخلال بالمبادئ الأخرى، كذلك علينا التفرقة الهامة بين إخلالك بقواعد القانون، وتجرّدك من القانون الحالي في سعيك نحو تحليله لبيان صورة أفضل منه مستقبلاً. انطلقت الملكية الفكرية متبلورة حول فكرة مفادها "حماية المجهود الذهني للمؤلِف، باعتبار المُؤلَف حقاً مملوكاً له"، وغني عن التعريف أن المؤلِف والمؤلَف يُقصد به أي شخص - المؤلِف - يستطيع تحويل فكرة ذهنية لصورة واضحة المعالم يمكن تناقلها أو إدراكها ككل - المؤلَف - أي عمل مسموع أو مرئي أو مقروء أو مجسم فمن البديهي أن الملكية تالية على الوجود كقاعدة عامة - لها استثناءات ذات ضوابط - وكذلك لا يمكن محاسبة شخص على انتهاك ملكية فكرية لفكرةٍ ما لم تخرج عن عقل صاحبها، فكانت العبرة بالوجود الممكن إدراكه. غير أن القوانين والقانونيين أسبغوا على الملكية الفكرية - وهي منصبة على مجهود ذهني من الصعب إيضاح حدوده - ذات قواعد الملكية العينية في حد ذاتها والتي من السهل إيضاح حدودها وأبعادها وموقعها وتلك أضعف سهام النقد. النقد الآخر واجب الإيضاح أن الحقوق المترتبة على الملكية الفكرية لا تتماشى مع طبيعتها، ففي حالة تملك عقار لا يمكن لمنتفعيّن استغلال نفس ذات العين بالصورة الكاملة معاً، فشغل أحد المنتفعين أو استغلاله لجزء من العين ينتقص شيوعاً أو مفرزاً من ملكية الآخر أو انتفاعه، بينما الأفكار يمكن لملايين البشر استغلال واستعمال - بل والتصرف قانوناً بشروطٍ معينة، وبلا شرط واقعاً - نفس الأفكار دون انتقاص من استغلال الآخرين، بل إن الهدف الأساسي لعمل المؤلف هو الوصول لتلك المرحلة. النقد الأكثر أهمية أن الملكية العينية - كقاعدة - لا تحجب منفعة عامة مُلحّة في عصرٍ كعصرنا الحالي، كالحق في التعلّم والإبداع، فنرى أننا أمام مصلحتين متضاربتين - لا نفضل إحداهما الأخرى لأننا لسنا موضع تشريع - وهما الحق في التعلم وتناقل الإبداع، وكذلك الحق في حفظ حقوق الملكية الفكرية، والتي غالباً ما ينالها التعسف من أصحابها سعياً خلف ربح مادي مستمر، خصوصاً أن أغلب المؤلفين - أياً كان نوع مؤلفه كما سبق الذكر - يبيع حقوق التربح من أعماله لدور تجارية متخصصة وإن اختلفت مسمياتها، والتي هنا حولت محل النظر القانوني من تملّك فكري له طبيعته الخاصة لتجارة متوحشة، والذي يدفع الراغبين في تلقي الإبداع يردون صاع الاتجار بصاع - ما سُمي - القرصنة. كما يمكن أن نرى جلياً أن حقوق التملّك العينية - كأصل عام - لا تتكوّن من جملة اكتُسِبَت من احتكاك بمكونات عينية أخرى غير محددة، ولإيضاح ما نريد التدقيق حوله، فالمجهود الذهني للمؤلف هو جملة خبرات اكتسبها وتناقلها من الاحتكاك بعموم البشر وكذلك من تطويره لأفكارٍ أخرى كانت خاضعة أيضاً للملكية الفكرية، والتي لن تعلم تحديداً من أي مصدر استقاها إلا بإقراره. غير أن نقد مثل هذا لا يعتبر محورياً، لكونه مما قد تجود به الطبيعة، لكنه يستحق الاعتبار. وعلى الجانب الآخر مما يستحق النظر بعيداً عن الجوانب القانونية، أن كثيراً من المؤلفين أنهوا حياتهم مفلسين بينما تجني أعمالهم الملايين لصالح شركات الإنتاج ودور النشر، وغني عن البيان أنه لا يمكنه كمؤلِف الاضطلاع بمهام متخصصة كالنشر والتوزيع سواء في بداية حياته، أو حين ينهيها. وكذلك من قضوا فترة طويلة في تكوين مؤلفاتهم، فباعوا ممتلكاتهم واستدانوا، فلم يجدوا بُداً من بيع الحقوق التُجارية بمبلغ مرتفع لسد ديونهم، أو ما حدث عكسياً بأن اضطرت شركات الإنتاج، أو المُهتمون بالمؤلفات بتقرير مرتب شهري لمؤلفين لإنهاء أعمالهم. فنخلّص من الفوارق التي استوضحناها آنفاً بأنه مع التسليم الكامل بوجوب التأكيد على مفهوم الملكية الفكرية، وحق النسب بين المؤلَف والمؤلِف، أننا بحاجة لتطوير القانون - كوسيلة - بما يحل النزاع بين حق المؤلِف في أن يحفظ مجهوده الذهني وينال ما يستحقه من تقدير مادي ومعنوي، خصوصًا أن المجهود الذهني غير مستدام وكونه احتمالياً، وكذلك في حق غير القادرين على التعلّم والإبداع دون استغلال تجاري، وأن نمنح الملكية الفكرية ما يليق بطبيعتها المختلفة عن الملكية العينية، ولذلك تفصيل آخر مع نبذات عن تجارب ومحاولات في هذا الصدد. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :