بدلاً من أن يمسك الرئيس الأميركي بزمام الصفقات الكبرى في الشرق الأوسط، رأيناه يتخلى عن المفاتيح الأساسية مجاناً، وعبر اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل من دون التمييز بين الأقسام العربية واليهودية، منح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتصاراً كبيراً من دون أن يطلب منه أي شيء في المقابل. بإطلاق ترامب فكرة "أميركا أولاً" في عام 2017 تخلّت الولايات المتحدة عن دورها كقائد للعالم، وهو دور أدته على امتداد سبعين عاماً، وهو كذلك موقع بدأ بالتقلّص في عهديْ سلفيْه أساساً، ولعلّ الشرق الأوسط أكثر مكان تشعر فيه بتراجع الدور القيادي الأميركي. حتى في إسرائيل- التي تغدق حكومتها على ترامب المديح والإطراء الدائمين لدعمه لها ولإعلانه إسرائيل عاصمة للقدس- يثير تصرف الرئيس الأميركي الغريب الأطوار الحذر، وقد توصل محبّو ترامب ومبغضوه إلى الاستنتاج نفسه: دخل الشرق الأوسط مرحلةً ليست الولايات المتحدة فيها لاعبة أساسية. وفيما تنسحب الولايات المتحدة من المنطقة يدخل كلّ من روسيا وإيران الحلبة (بالإضافة إلى تركيا وحتى الصين). مصالحهما على نقيض من مصالح أميركا وضمان أكيد لمشاكل مستقبلية مع واشنطن، إلا إذا عاد ترامب عن انسحابه هذا في عام 2018. ولا شيء يجسّد انتقال النفوذ هذا أكثر من زيارة بوتين إلى سورية في 11 ديسمبر 2017 بعد جولة قام بها إلى القاهرة وأنقرة، وكانت جولة بوتين الانتصارية على نقيض تام مع ردة الفعل الدولية السلبية التي نالها ترامب لاعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل قبل أسبوع من الجولة الروسية. وقد انتشر فيديو بوتين الاستعراضي عند وصوله الى القاعدة الجوية الروسية في حميميم في سورية انتشار النار في الهشيم على شبكات التواصل الاجتماعي العربية، وعندما وطئت قدما الرئيس الروسي أرض القاعدة الروسية في سورية كان في استقباله ضابط روسي وليس الرئيس السوري بشار الأسد. وطبعاً صافح بوتين الرئيس السوري في نهاية المطاف إلا أنه سارع في المشي أمامه متقدماً إياه بخطوات فيما حاول ضابط روسي آخر إبطاء الرئيس السوري كي لا يلحق بوتين بخطاه فيسير إلى جانبه. كانت الرسالة بالتالي واضحة: كان بوتين قائد سورية الجديد- ذاك الذي ساهمت قواته الجوية الى جانب القوات الإيرانية على الأرض في إنقاذ الأسد- وها هو يبرهن أنه من يمسك بزمام الأمور في البلاد، وكان ذلك النفوذ يشمل قواعد جوية وبحرية في أكثر من مكان على البحر المتوسط. فإن شاءت كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل كبح جماح الامتداد الإيراني في سورية فعليهما اليوم التعامل مع بوتين الذي لا يقلق من طهران بقدر ما يفعل ترامب، وقال وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشي يعلون معلقاً على الموضوع: "نشعر اليوم بأنّ بوتين هو ملك سورية وبأن الولايات المتحدة باتت في موقع المنسحب من المنطقة". قد تتساءلون كيف يكون ذلك صحيحاً فيما تم استقبال ترامب بحرارة في القدس وفي السعودية على السواء؟ فبعكس أوباما وخطوطه الحمر، أطلق ترامب الصواريخ على قاعدة عسكرية سورية استخدمت الأسلحة الكيميائية، كما أنه سرّع وتيرة الحرب التي سبق أن أطلقها أوباما ضدّ "داعش" في العراق وسورية، ولكن مذاك أربك قصر تركيز ترامب وأداؤه المضطرب حلفاء الشرق الأوسط وأثلج صدور خصومه تماماً كما فعل مع آسيا وأوروبا. وما زال العالم ينتظر رؤية نتائج ملموسة لعلاقاته الشخصية مع بوتين وأردوغان والعاهل السعودي الملك محمد بن سلمان والصيني شي جين بينغ. فبعدما انتصر ترامب عسكرياً ضد "داعش"، لم يظهر اهتماماً في اتباع استراتيجيةٍ واضحة للحؤول دون أي تمرّد جهادي في المستقبل، ولا حتى عمل مع السعودية لتطوير استراتيجية واضحة لإيقاف التمدد الإيراني في المنطقة. وأظهر الرئيس الأميركي نفسه- على عكس بوتين الذي وقف بشدة مع حليفه الأسد- قادراً على خيانة حلفاء أميركا من الأكراد والسوريين الذين تولّوا معظم المعارك ضدّ "داعش". وقد لاحظ السنة العرب من أصدقاء أميركا هذا التناقض في مواقف ترامب وصلابة مواقف بوتين، وهم يدركون في أي اتجاه تسير الأمور: اتفقت كل من روسيا ومصر اليوم على مشاركة مجالهما الجوي وقواعدهما العسكرية وذلك بعد خمسة عقود من طرد أنور السادات للسوفيات. في غضون ذلك يتخبط ترامب في مشاكله السياسية من أوروبا إلى الشرق الأوسط إلى آسيا عبر دبلوماسيته القاسية وتوجيهه الإهانات إلى وزير خارجيته وعبر تغريداته التي تنال من مصداقية فريقه. ففي الشرق الأوسط، وبدلاً من أن يمسك الرئيس الأميركي بزمام الصفقات الكبرى، رأيناه يتخلى عن المفاتيح الأساسية مجاناً، وعبر اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل من دون التمييز بين الأقسام العربية واليهودية، منح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتصاراً كبيراً من دون أن يطلب منه أي شيء في المقابل. وفي الوقت عينه حطّم ترامب جهود صهره بإعداد "أكبر صفقة سلام للقرن"، ويصرّ الفلسطينيون الآن على أنّ الولايات المتحدة ما عادت راعيةً نزيهة للسلام ولم تعد تتمتع بالمصداقية المطلوبة، ويحاولون إضفاء الصفة الدولية على أيّ مفاوضات مستقبلية للسلام. وفي ما يتعلّق بروسيا وسورية وإيران تبيّن أن أسلوب ترامب كان أكثر تدميرياً، ذلك أنّ إيمانه المتخيّل بعلاقةٍ حميمة مع بوتين جعله معرضاً لتلاعب قائد الكرملين به، خصوصاً أن الأخير يجيد هذه اللعبة ببراعة. فقد قبل ترامب بصفقات مع موسكو تطلق يد إيران في سورية على الحدود مع إسرائيل، وهكذا أصبح بوتين القوة التي لا يمكن تجاهلها في المنطقة، والتي على كل القادة الرجوع إليها من الرياض إلى القاهرة إلى ليبيا إلى أنقرة إلى رام الله إلى إسرائيل لصياغة الاتفاقات الجيوسياسية الجديدة. أوباما فتح الباب لروسيا وها هو الرئيس ترامب يترك الباب هذا مفتوحاً على مصراعيه، ويحاول الجميع في المنطقة، من عرب وأكراد وإسرائيليين، التفكير في كيفية التعامل مع حقبةٍ جديدة لم تعد الولايات المتحدة مصدر النفوذ الأساسي فيها، ويتساءل الجميع من دون أي تفاؤل بهذا الشأن عما إذا كانت السياسة الأميركية ستستفيق من سباتها لتعود إلى موقعها في الواجهة في عام 2018. * ترودي روبين * "فيلاديلفيا إنكوايرير"
مشاركة :