حينما تقرأ عن بعض الزعماء العرب في ذكرى وفاتهم أو خلال الاحتفاء بهم في حياتهم تعتقد أنك إزاء شخصية ليست من البشر. شخصية خارج إطار الأخطاء. ربانية ملهمة متفانية متسامحة وهبت حياتها وعمرها لبلادها إلى حد أنك من عِظم الصفات تضعها قبل غاندي ومانديلا. تراءى لي ذلك وأنا أقرأ عن ذكرى وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، وفورا تذكرت مطلع قصيدة نزار قباني التي ينعيه فيها "قتلوك يا آخر الأنبياء"، لأكتشف كما غيري أن شاعرنا الفحل لم يكن إلا عربيا مسكينا توهم أن الخلاص كان يجب أن يكون على يد الصنديد النبيل المصلح عبد الناصر لينعيه بعد وفاته. كان العرب من فرط جور المستعمر ومن ثم المحتل الإسرائيلي ينتظرون المخلص، ليأتي عبدالناصر بسلاح الخلاص من إسرائيل، حتى استقر وعيده على أن يرميها في البحر، وبدأت حرب حزيران 1967 وخسر عبدالناصر الأرض والحرب، وخسر معها العرب المصداقية، لتكون نكسة حزيران نكسة العرب، وليجعل من الصوت العربي ذليلا منكسرا استمرأ النداء وهو قابع تحت بسطار العسكر! نعم جمال عبدالناصر زعيم عربي لكنه أسس لمستقبل عربي سلاحه الصوت لا الفعل. وعليه فعلى أي شيء نحتفل بهذا الرجل الذي جعل مصر -الارتقاء والحضارة والسير نحو الرقي الصناعي والاقتصادي قبل أن يختطفها- في مؤخرة الركب، ليحولها إلى بدائية فقيرة مديونة بعدما كانت تعيش قبله رغدا وسموا. في ذكرى الرئيس المخلص ما زال التاريخ يسأل عما فعل باليمن التي كانت على بعد قارة عن بلاده، فهو غير الخيبة في غزوها؛ فقد ورّث للانقلابيين العرب القدرة على صياغة الألفاظ التهديدية، ليتلقفها صدام حسين وليعلو الصوت من جديد بالتهديد بحرق نصف إسرائيل، قبل أن يحتل الكويت ويتوعد الأمريكيين بحرب ستعيدهم جثثا في توابيت مغلقة ثم ماذا؟! قبض عليه مختبئا في جحر، الأمر الذي سار عليه العسكر حتى بلغت نشوة الرتب والزعامة الانقلابية القذافي ليجمع بين العدوين تحت مسمى "إسراطين" ولعلنا لا نظلمه لأنه الوحيد الذي أوفى بوعده بالطرد وتحرير بلاده حينما قام بطرد العجائز والنساء والأطفال الفلسطينيين خارج بلاده في العراء عبر الحدود مع مصر! هل نستطرد في ذكر مآثر عساكر الانقلاب العرب الذين تشبعوا بمبادئ عبدالناصر؟ هل نشير إلى صالح أو نتوقف عند حافظ الأسد وشعاراته وسيفه المسلط على شعبه ورصاص بنادقه التي قتلت من أبناء وطنه الآلاف مقابل أنه لم يجرؤ حتى على توجيه بندقيته صوب إسرائيل. مشكلتنا ورغم الرقي الحالي الفكري والتحليلي للعالم أجمع؛ أننا مازلنا كعرب نعيش نشوة الشعارات والرموز التي كشف لنا التاريخ زيفها وبما جعلنا حتى غير قادرين على قراءة تاريخنا الحقيقي؟! هذه حال العسكر وغطرستهم التي أسس لها جمال عبدالناصر بالآلة الإعلامية الضخمة التي جعلها سلاحه الأساس، والنتيجة أن الخيبات ما زالت تمتد وتتواصل، ومعها وأثنائها لن نبرر للعقلية العسكرية الإسرائيلية المتعطشة للحروب والدماء والاعتداء على كل ما هو عربي.. لكن ورغم ذلك علينا أن نسأل أنفسنا من مهّد لها ذلك، ومن اندفع لتسهيل مهمتها، ألم تكن تلك الأصوات الفارغة التي لم تحسب حسابات القوة ومعدلاتها! الأكيد أننا لن ننسى جمال عبدالناصر وسنستعيد ذكراه في كل مناسبة تخصه لأجل أن نستعيد خيبتنا ونكستنا، وبدء تراجع البلد العظيم مصر الذي لو قدر له الاستمرار بعيدا عن عبد الناصر، لكان الآن من دول الصف الأول قوة وصناعة واقتصادا. ولعل نزار قباني حينها يجد بطلا من الانقلابيين العسكر العرب الآخرين لينعيه بعد وفاته!
مشاركة :