ما نراه من انفجار شعبي في إيران ليس جديداً، فهو إعادة تأكيد لحقيقة غابت عن ذهن الحكومات الكهنوتية الطوباوية عبر التاريخ، وهي أن الخبز أهم من الكلام. ما يحدث في إيران نتيجة طبيعية لتراكمات سياسية طويلة ولقرارات خاطئة وخطرة تجاهل النظام الشمولي نتائجها على شعبه على رغم تكرار التوقع بحدوثها. منذ ثورة الخميني عام ١٩٧٩ حدث تغيير كبير في السياسة الإيرانية، فبدلاً من التركيز على التحديث كما كان الشاه الراحل يفعل، بدأ النظام الجديد في بناء إمبراطورية «صفوية» «مهدوية» أعاد من خلالها نبش تاريخ الحروب والأحقاد القديمة وأعاد إنتاجها في العصر الحديث، ولكن التغيير الذي حدث في طرائق التفكير هو فقط في الانقلاب من الحداثة إلى الحروب المهدوية، لكن طريقة إدارة الشأن الداخلي خاصة الاستبداد بالشعب لم يتغير، بل أخذ صور أكثر بأساً، فسيطر الملالي والنظام الثوري على المال والسياسة والسلاح والإعلام، وسيطر الخميني على جميع المؤسسات الحاكمة في البلاد، وحوّل الديموقراطية التي وعد بها إلى ميكانيكية لتبادل السلطة من يده اليمنى إلى يده اليسرى، فلا يمكن قبول أي مرشح انتخابات إلا إذا كان من المحسوبين على مرشد الثورة، وتمت مصادرة أموال المعارضين وتأسيس حرس ثوري وجيش شعبي من ملايين المهووسين، هدفه حماية السلطة. لم تلجأ السلطة لتحديث البلاد إلا على المستوى المادي، فبدا المظهر العام مذهلاً في دولة تطلق صواريخ فضائية حديثة من ناحية وتطلق شعارات أن الإمام خامنئي يتحدث بالهاتف الجوال مع الإمام المهدي المختبئ في سرداب من ١٢٠٠ سنة، من ناحية أخرى فالنظام لجأ إلى الدجل الديني والإعلامي والتسويق لقضية المظلومية ومقارعة الاستكبار العالمي لتدجين عقول الشعب ثم إبهاره بالمنجزات الصاروخية، بينما يزحف الفقر على الأمة. يوجد في إيران نسبة بطالة مكشوفة تصل إلى ١٣ في المئة، وهي النسبة المعلنة، ولكن النسبة الحقيقية تزيد بكثير عن ذلك، أما البطالة المقنعة فأضعاف هذه النسبة، وقد ذكرت مصادر أن وحدات الإنتاج الحكومية تعين في كل وظيفة واحدة ٤-٥ موظفين بهدف امتصاص البطالة أملاً في تأجيل الانفجار فخلقت بطالة مقنعة هائلة الحجم أدت - بجانب الفساد والمحسوبية وضعف الإدارة - إلى انهيار كفاءة الوحدات الإنتاجية وتباطؤ عام في الاقتصاد. أدت سياسات المواجهة مع الخارج والبرنامج النووي إلى عقوبات دولية شلت الاقتصاد، وظن الملالي أن وجود الرئيس السابق باراك أوباما سيكون بمثابة (المهدي المنتظر) الذي سيرفع كاهل العقوبات عنهم، وأوحوا له بإمكان مساعدته في تحقيق إنجاز في سياسته الخارجية بتجميد البرنامج النووي لعقد من الزمان مقابل سكوته عن التمدد الاستراتيجي لإيران في دول الجوار لإعادة بناء الإمبراطورية الصفوية، وهو ما حدث إلى حد بعيد، فانطلقت إيران نحو الغرب بتمويل ميليشيات مسلحة ودعم حكومات طائفية مجرمة عميلة، ولكن ما لم يخطر ببالهم هو أن أوباما استغل العقل التوسعي الشره للأنظمة الشمولية، واستدرج النظام الإيراني إلى فيتنام عربية لاستهلاك اقتصاده الهش في حروب لانهائية، وتبديد أي فوائد اقتصادية ومالية سيحققونها من الاتفاق النووي. النتيجة هي عدم حدوث تغير حقيقي في الأوضاع المعيشية بعد تخفيف العقوبات، بل ملايين العاطلين والمشردين ومدمني المخدرات والكحول والعاهرات وبيوت الصفيح، وانهيار العملة المحلية والقطاع المصرفي وتعددت حالات إفلاس المؤسسات والبنوك، ولكن ظل الأمل شاخصاً في أذهان الشعب أن الاتفاق النووي الذي انتخبوا الرئيس روحاني على وعد إنجازه سيحقق لهم الرخاء في النهاية. الضربة الكبرى جاءت من الرئيس الجديد ترامب، فسياسته المتشددة مع إيران منذ بداية عهده ورفضه التصديق على التزام إيران بالاتفاق والعقوبات الأميركية الجديدة أرسلت رسالة واضحة ونهائية للشعب الإيراني أنه لا أمل في العودة إلى الحياة الطبيعية بوجود هذا النظام، فإيران لا تستطيع تدمير المنطقة والتباهي باحتلالها بميليشيات ثم الاعتقاد أن العالم سيسمح لهم بحياة طبيعية، ما سبب الانفجار الحالي. كان الشعب انتخب الرئيس روحاني الذي حاول ارتداء قناع معتدل، ولكن مع الوقت اكتشف الشعب الإيراني، وخلفه العالم، أنه لا يوجد في الحقيقة تياران، أحدهما إصلاحي والثاني محافظ، فالاثنان أحجار على رقعة شطرنج الخامنئي، وأن الفرق بين الإصلاحيين والمحافظين مثل الفرق بين البيبسي كولا والكوكاكولا كما قال أحد الأشخاص. انقسم الجمهور كالعادة بين مؤيد للنظام الذي يقول إن هذه هي مجرد مظاهرات بسيطة لشؤون مطلبية اقتصادية فقط وهو غير صحيح، فالانفجار هو نتيجة لقرارات سياسية طويلة المدى فمتطلبات المتظاهرين بالخروج من سورية مثلاً دليل أن المشكلة في جوهرها سياسية وليس اقتصادية، كذلك اندلاع المظاهرات بعد إعلان موازنة ٢٠١٨ التي تحمل زيادة قدرها ٥٠ في المئة في أسعار الطاقة، ما سيؤدي لارتفاع عام في التضخم لمستويات ستسبب مجاعة لـ٥٠ في المئة من الشعب الإيراني الذي يعيش تحت خط الفقر في دولة تملك كل أسباب الثراء، في الوقت ذاته، الذي ستشهد الموازنة، للعام الثاني، زيادة كبيرة في موازنة الحرس الثوري من ناحية والمؤسسات الثورية للخامنئي من ناحية ثانية، ما أرسل رسالة قاطعة للشعب الإيراني أن النظام يرفض أن يتجاوب مع المطالب الشعبية، وسيسعى للمزيد من التدخل الخارجي العسكري والثوري على حساب لقمة العيش، إضافة إلى إيقاف المعونة المالية التي كانت تبلغ ١١ دولاراً للشخص الواحد لتمويل مغامرات النظام، وهذه قرارات سياسية واستراتيجية وليست اقتصادية كما يصورها البعض. أعتقد أن هذه «الثورة على الثورة» لم تكن عفوية، فبوادرها كانت موجودة من فترة في شكل أحداث شغب ومظاهرات صغيرة متكررة حول المشكلات نفسها ولا تبدو هناك قيادات ثورية في الشارع يمكن اعتقالها لإنهاء الوضع، ما قدي يعطيها إمكان استمرارها، ولكن يتم حتماً قيادة هذه الثورة بالطريقة نفسها التي أدار بها الخميني ثورته عندما كان قابعاً في فرنسا يدير ثورته بأجهزة التسجيل حتى سُميت بـ«ثورة الكاسيت»، والآن تدار بالأقمار الصناعية. يجب على الغرب التظاهر بعدم التدخل، لعدم إعطاء النظام فرصة لاتهام المتظاهرين بالعمالة والإرهاب واستخدام القوة المفرطة ضدهم، بل الاعتماد على عمل سري منظم يقوده المجلس الوطني للمعارضة الإيرانية في الخارج، الذي تقوده السيدة الشجاعة مريم رجوي، والاكتفاء بدعمهم مادي ومعنوي، فهم يمتلكون خبرة كبيرة في إدارة الثورات، فمنظمة مجاهدي خلق هم في الواقع الذين قادوا الثورة ضد الشاه في الشارع وتمكنوا من إسقاطه، ولكن استولى الملالي على الدولة، وجاء الآن الوقت المناسب ليستعيد الشعب الإيراني بلاده من هذا النظام الفاسد المستبد. * باحث في الشؤون الدولية.
مشاركة :