إنّ محو العصبيّة في مجتمعاتنا العربيّة يأتي كضرورة قبل محو الأمّيّة، إذ ماذا ينفع أن يكون المجتمع متعلّماً في حين أنّ سلوكه الحياتيّ متخلّف ورجعيّ؟ سؤال طرحه الباحث اللّبنانيّ فردريك معتوق في كتابه «صدام العصبيّات العربيّة»، الصادر حديثاً عن منتدى المعارف في بيروت، من ضمن سلسلة اجتماعيّات عربيّة. حاز مفهوم العصبيّة - ولا يزال - على اهتمام المفكّرين والباحثين العرب والأجانب، ذلك أنّ العصبيّة شكّلت الرابطة الأولى التي عاضدت الكائن البشريّ منذ ظهوره على الأرض، بوصفها رابطة دمّ تَجمع أهل العَصَبَة الواحدة، وتشكِّل ظاهرة إنسانية كَونيّة، تدخل في صُلْبِ اهتمام العلوم الإنسانيّة المُعاصرة. وإذ اشتهر ابن خلدون بمُقارَبة مسألة العصبيّة في المجتمع القبليّ الإسلاميّ مقاربةً ديالكتيكيّة جدليّة بعبارات اليوم، مُحدِثاً بذلك ثورة منهجيّة في النّظرة إلى التاريخ، وممثِّلاً أيضاً على حدّ تعبير المفكّر علي أومليل، «أكثر من غيره العنصر العصريّ في الثقافة التقليدية» (الخطاب التاريخي دراسة لمنهجية ابن خلدون، 2008)، فذلك أنّه جعل التاريخ «خبراً عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالَم»- أي تاريخ هذا العمران نفسه- والذي يقضي من جهة، بوجود وازع يدفع البشر بعضَهم عن بعض، «فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهِم الغَلَبةُ والسلطانُ واليدُ القاهرةُ، حتى لا يصلَ أحدٌ إلى غيره بعدوانٍ، وهذا هو معنى المُلك» («في العمران البشري على الجملة»، الباب الأوّل من الكِتاب الأوّل من المقدّمة)، كما يقضي هذا العمران أو اجتماع البشر من جهة ثانية، بوجود العصبيّة، لأنّ الوجودَ وحياةَ البشر قد تَتِمُّ «بما يَفرِضُهُ الحاكِمُ لنفسه، أو بالعصبيّةِ التي يقتدرُ بها على قَهْرِهِم وحَمْلِهِم على جادَّته» (المرجع السابق نفسه). فالمُلك والعصبيّة، والتغلّب والدولة، «مفاهيم» مترابطة من ضمن نظريّة ابن خلدون في العمران وقوانينه، بحيث يحصل المُلك بالتغلّب، ولا يقوم هذا المُلك والدولة إلّا «بالقَبيل والعصبيّة» و«التعصّب للنسب» (لأنّ العصبيّة إنّما تكون بالالتحام بالنسب) و«الشرف» و«الدّين» (راجع مقدّمة ابن خلدون، الفصل 13 من الباب الثاني من الكتاب الأوّل: «في أنّ البيت والشرف بالأصالة والحقيقة لأهل العصبيّة ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه»). ما يعني أنّ ثورة ابن خلدون المعرفيّة والمنهجيّة في دراسة التاريخ أفضت إلى أن يصبح العمران البشريّ هو الموضوع الجديد لعِلم التاريخ، على «أساس واقعة اجتماعية، كانت طاغية ملموسة في عصره، واقعة الرابطة العصبيّة» (محمّد عابد الجابري، العصبيّة والدولة).هكذا، استند فردريك معتوق في كِتابه الجديد إلى مفهوم العصبيّة الخلدوني، ليس من منطلق إعادة قراءة هذا الفيلسوف بعَين الحاضر، وما يستتبع ذلك من إسقاطٍ للماضي على الحاضر، بل للتأسيس على جدليّة الصراع العصبيّ الخلدونيّة كقوّة محرّكة للأحداث والتاريخ، من دون أن تكون العصبيّة تلك عند معتوق ذات بُعد قبليّ أو بدويّ، لكونها من منظوره السوسيو- معرفي «بنية من آليّات التفكير والتخطيط والسلوك، لا مجرّد حالة تاريخيّة مضى عليها الزمن فتخطّاها المدلول»، ولكون العصبيّة أيضاً مفهوماً «تركيبيّاً» و«ذهنيّاً» قابلاً «لإخضاع نفسه لعمليّات إعادة هيكلة بحسب الحاجة الموضوعيّة للجماعة التي تعتمده»، فضلاً عن تمتّعه «بمرونة Resilience بنيويّة، بقائيّة (...) تسمح له، بل تفرض عليه، التآلف الدائم مع كلّ جديد». فلو كان معتوق قد ماثل أو طابق مُماثَلةً أو مُطابقةً ميكانيكيةً بين الماضي والحاضر بالاستناد إلى جدليّة العصبيّة عند ابن خلدون فحسب، لما كان التقط التواصل القائم بين البنية المعرفية في القرن الرابع عشر الميلادي وتلك القائمة اليوم. حيث إنّ العصبيّة ببُعدها القبلي لدى ابن خلدون مُعزَّزة بالبداوة، ووجود البدو «متقدّم على وجود المُدن والأمصار وأصلٌ لها، بما أنّ وجود المُدن والأمصار من عوائدِ الترفِ والدَعَةِ، وحيث إنّ عمر الدولة مشروط بقوّة العصبيّة: لا يعدو عمر الدول في الغالب الأجيال الثلاثة على حدّ تعبير ابن خلدون، يكون الجيل الأوّل فيها على خلق البداوة وخشونتها وتوحّشها... فيما يتحوّل الجيل الثاني من البداوة إلى الحضارة ومن الشَظف إلى الترف... فتتكسر سَورة العصبيّة بعض الشيء.. أمّا الجيل الثالث فينسى عهد البداوة والخشونة ويفقد حلاوة العزّ والعصبيّة... ويبلغ الترف غاياته... وتسقط العصبيّة بالجملة» (المقدّمة، الفصل 14 من الباب الثالث من الكتاب الأوّل: «في أنّ الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص»). في حين أنّ مجتمعاتنا اليوم بلغت شوطاً في الحضارة تبطل معه نظريّة العصبيّة الخلدونيّة المحرّكة للتاريخ. لكنّ مقاربة العصبيّة كمنظومة فكريّة حيّة ومتحرّكة، سمحت لمعتوق باختبارها سوسيولوجيّاً، والنفاذ إلى جوهرها مُماثِلاً بين رجال العصبيّة في البنى القبليّة التقليدية ورجالات اليوم وهُم: أصحاب الشوكة في العشائر، أصحاب الكلمة في العائلات السياسية، رؤساء الأحزاب الطائفية، أرباب الطوائف الدينية ورموزها، لكونهم كلّهم أصحاب قرار في بيئاتهم.لبنان كحقل اختبارٍ سوسيولوجيّبعد قيامه بتأصيل مفهوم العصبيّة إبيستمولوجياً والكشف عن موقعه في تاريخ البنية المعرفية البشرية، درس معتوق العصبيّة سوسيولوجيّاً، كاشفاً وموضِحاً أبعادها في الثقافة العربية الماضية والحاضرة، فضلاً عن ديمومتها في الواقع الاجتماعي اللّبناني والعربي العامّ ومقاومتها للتغيير الفكري والثقافي، مرتكزاً بذلك على تجلّياتها الميدانية في الفضاء العربيّ بعامّة واللّبناني بخاصّة الذي شكّل حقل اختبار عبر بحثَين سوسيولوجيَّين قاما في مدينة طرابلس، أحدهما للباحث الفرنسي ميشال سورا، وُضع في منصف ثمانينيّات القرن الماضي، والثاني للمؤلّف نفسه أي فردريك معتوق، أُنجز سنة 2016. وما نجاحه في الذهاب هذا المذهب إلّا لكونه درس العصبيّة كتعبيرٍ عن حالة اجتماعيّة زمنية متحوّلة وليس انطلاقاً من كونها مفهوماً ساكناً. وهو ما أتاح له رصد تغيّر العصبيّة زمنيّاً بفعل التطوّر الاجتماعي الذي طاول مرتكزاتها، وما نتج عن ذلك من إخفاقٍ في التغلّب على «الهابيتوس» العصبي الكامن في المجتمعات العربية كافّة، وفي مختلف نخبها المُفترض أنّها نخبٌ غير تقليدية، مثل القوى والأحزاب الاشتراكية والشيوعية والقومية والتقدّمية... إلخ. يستند معتوق إلى ما بيّنه ابن خلدون في «أنّ استدراج العقيدة الدينية إلى حلبة الصراع السياسي جاء نفعيّاً وعصبيّاً على حدّ سواء، حيث كانت تتعامل القبائل مع المسألة الدينيّة كمتغيّرٍ تابعٍ لقرارها لا كمتغيّرٍ مستقلّ». أمّا في مجتمعاتنا المُعاصرة، فقد تحضَّرت العَصَبَةُ وتَعصْرَنت، وبات مظهرها العصبيّ الحالي يكاد لا يوحي بوجودها. غير أنّ تمويه العصبيّات جعلها أكثر استبطاناً لجوهرها وأكثر مكراً في تعاملها مع الآخر، حيث تحاول أن تخفي انتماءها العضوي الدفين؛ خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالأحزاب السياسية الطائفية التي يحاول قادتها ومسؤولوها رفع سقف الكلام «الديمقراطي» و«التقدّمي»، تمويهاً لخيارهم العصبي الجوهري.ولئن كان دَور العصبيّة يتمحور «حول بناء هويّتها الخاصّة والمستقلّة كما في المحافظة عليها نقيّة وصافية وسرمديّة»، فإنّ وظيفتها الأولى هي صناعة العدوّ لأنّ هذه الصناعة هي التي تعزّز هذا الدَّور بشكلٍ رئيس. وقد بيّنت المقابلات الميدانيّة في بحث فردريك معتوق، السابق ذكره والعائد إلى العام 2016، كيف نجحت العصبيّة في لبنان في إنجاز دَورِها هذا عبر: تعزيز انطواء الجماعة على نفسها، منع تبلّر المُعارضات الداخلية، تشييد جنّة العصبيّة، عسْكَرة تفكير أهل العصبة. ولئن برزت تجلّيات هذا الدور من خلال البحثَين السوسيولوجيَّين الميدانيّين، فلأنّ هذه التجلّيات أظهرتها طرائق تفكير الجماعات الطائفيّة في لبنان، التي تدعمها أو تغذّيها العصبيّة الخلدونيّة المستندة إلى ثلاثيّة الوظيفة الخلدونيّة، أي «النعرة، والتذامر، والاستماتة»، فداعش مثلاً في الحالة العربيّة هي أقصى ما يمكن أن تبلغه عصبيّة لكونها صاحبة مشروع سياسي يقوم على نظرية دينية ومذهبية، وقد استولت على السلطة بالغُلب، وبالاستناد إلى النعرة (المذهبيّة) والتّذامر (الدينيّ) والاستماتة (العسكريّة).ففي مُعادلة الغُلب المتحرّكة لابن خلدون، بإمكان العصبيّة، كرابطة رحم ودم، «أن تحوِّل هذه الرابطة إلى رابطة دم ودين عندما ترى مصلحة سياسية لها في الأمر. كما بإمكانها خلع هذه الصيغة عنها عندما تشاء» لأنّ العصبيّة لا تتوقّف عن اعتبار نفسها هي الأصل وهي صاحبة القرار. هذا مع ضرورة الإشارة إلى أنّ النسب عند ابن خلدون- على حدّ تعبير الجابري في كتابه المذكور آنفاً (أي كِتاب العصبيّة والدولة) «لا يعني ضرورةً القرابةَ الدمويّة، بل إنّه فقط العلامة المميّزة للجماعة (...) أمّا العصبيّة، التي يقول عنها إنّها ثمرة النسب، فهي في الحقيقة ثمرة الانتساب إلى عصبة معيّنة تتميّز عن غيرها من العصبات، بتلك العلامة المميّزة: النسب، ومن هنا كان تعصّب الفرد لعَصَبَتِهِ إنّما يرجع إلى الأُلْفَة وطول المعاشرة وما ينتج عن ذلك من تشبّعه بعاداتها وتقاليدها، وبالروح الجمعيّة السائدة فيها، ومن ارتباط مصلحته بمصلحتها ووجوده بوجودها».العصبيّة في لبنان تقوم في الوقت الراهن على انتماء ديني ومذهبي، والعصبيّة المذهبيّة هذه أشدّ قوّة وتجذّراً من العصبيّة الدينية لكونها تستفيد من روابط الدمّ والدّين والمذهب، فيما تستفيد العصبيّة الدينيّة من الرابطَين الأوّلَين فقط (أي الدمّ والدّين). وبموازاة دولة المُلك الخلدونيّة الناتجة عن تغلّب عصبيّة على أخرى وبلوغها السلطة، «فيما تلك التي هي خارج الحُكم تنتظر اللّحظة المُناسبة للحلول مكانها»، فإنّ دولة العصبيّة المُعاصرة والرّاهنة في الشرق الأوسط والعالَم العربيّ تقوم على مكوّنات عصبيّة يكون العقد الاجتماعي فيها محكوماً بقانون الغُلب العصبيّ، أو بمُعادَلة اللّاغالب والّلامغلوب، ما يشكّل تهديداً دائماً للدولة.خلاصة الأمر إنّ العصبيّة لا زالت حيّةً وكامنةً في مجتمعاتِنا، لا بل إنّها تعيق كلّ عمليّة تغيير فكري وثقافي حقيقيّ، وإنّ دراسة فردريك معتوق لم تعمل على تقصّي تلك العصبيّة ومعالِمها وطبيعتِها فحسب، بل أشارت إلى «تمدُّدِها الجذموريّ» Rhizomatic في مناحي الحياة السياسية والاجتماعية كلّها، من تقليديّة أو مُستحدَثة، حيث يحيل مصطلح «جذموريّ» إلى نموذجٍ وصفيّ وإبستيمولوجيّ في الفلسفة والعلوم الاجتماعيّة، لا يخضع تنظيم العناصر فيه لأيّ تراتبيّة أو لتبعيّة أيّ عنصر للآخر، بل تتمدّد العناصر جذموريّاً مثل الأعشاب وباتّجاهات متعدّدة وتنبت بنفسها من دون حاجة إلى يد تنقلها. ومن هنا دعوة المؤلّف إلى محو العصبيّة قبل محو الأمّية كبنْدٍ أساس من بنود تشكيل «أنموذج إرشاديّ جديد».
مشاركة :