عندما صعد محمد علي صالح الشحي، إلى ظهر المحمل التجاري كان يومئذ طفلاً يبلغ من العمر 13 عاماً، لكنه كان مشحوناً بمشاعر فرح عارم، كونه يخوض لأول مرة تجربة السفر عبر البحار، والتي كان المجتمع وقتذاك يرى فيها ضرباً من مظاهر الرجولة، وتحمل المسؤولية. ويتذكر الشحي، الذي تجاوز عمره الآن 70 عاماً، الأسفار بالمحمل قائلاً: «لم أكن خائفاً من تجربة ركوب المحمل، عندما كنت طفلاً، فتلك كانت الأمنية التي يحلم بها الصغار قبل الكبار في ديرتنا، إذ كان الآباء يشجعون أبناءهم على ركوب المحامل والسفر عبر البحار، لأنها تشكل مورداً مهماً لجلب المال الذي يعين الأسرة على مواجهة متطلبات الحياة، وما زادني اطمئناناً في أول رحلة بحرية قمت بها على ظهر المحمل هو وجود شقيقي الأكبر المرحوم أحمد في الرحلة ذاتها». ويتابع الشحي «المحمل هو السفينة، وأيضاً كنا نسميه الخشب، وهو إحدى الوسائل التي اعتمد عليها سكان منطقة الخليج العربي في حركتهم التجارية، حيث كانت تنقلهم إلى الأماكن البعيدة. وفي الغالب كان يُصنع من خشب الساي الذي يستورد من الهند، لأنه يمتاز بالصلابة في مواجهة مصاعب مياه البحار فالأثرياء هم من يملكون المحامل، وبعد انتهاء المهمة التجارية كانوا يتركونها على البر بالقرب من شاطئ البحر، انتظاراً لموسم السفر الجديد الذي يصادف الشتاء أي ما يعرف بـ(الربعية)، وتعني قص الرطب عن النخيل». ويتذكر الشحي قائلاً «عندما حان وقت السفر تجمعنا إلى جوار المحمل، وقد كان عددنا يراوح بين 25 و30 شخصاً، ثم صعدنا إلى ظهر المحمل، وقد علمت كل مجموعة جيداً المهام الموكلة إليها من قبل النوخذة، ومن بين هؤلاء الطباخ، والكراني (المحاسب)، والسكاني الذي يتحكم في توجيه المحمل، وفي الغالب لا يغيب النهام عن ظهر المحمل، لأنه المطرب الذي يخفف وعثاء السفر بأشعار يشاركه الجميع في تردادها ليلاً ونهاراً، أما الأطفال صغار السن، وقد كنت أحدهم، فيسمونهم (التباب)، وتنحصر مهامهم في خدمة المسافرين على المحمل، أي تقديم الماء والقهوة ومناولة بعض الأشياء التي تتعلق بالرحلة». وقبل بدء حركة المحمل نحو أعماق البحر، يضيف الشحي من ذاكرته الخصبة، «كانت مهمة النوخذة توفير كل ما هو ضروري مثل أغراض الأكل والشرب التي تشمل: ماء الشرب، العيش، الطحين، السكر، القهوة، والملح، وبعض الأدوية، والمعدات التي تساعد على صيانة أعطال المحمل، ثم التأكد من سلامة الأشرعة وقدرتها على توجيه التيارات الهوائية لدفع حركة المحمل نحو مقصده». وعندما اقتربت لحظة انطلاق الرحلة، والحديث مازال للشحي عن رحلته طفلاً، «قام الجميع بسحب المحمل من البر وإنزاله في البحر، ثم صعدوا إلى ظهره، واتخذ كل واحد منهم مكانه، بينما عيونهم مشدودة إلى البر تودع الديرة والأهل والعشيرة، وبهدوء سار المحمل مبتعداً عن الشاطئ قاصداً البصرة في العراق، وحل المساء ليتناول الجميع وجبة العشاء التي قام الطباخ بإعدادها». ويكمل الشحي «أثناء الليل أوقد النوخذة فانوسين (فنارين) يتوزَّعان على يمين ويسار المحمل، أحدهما بضوء أخضر، والآخر أحمر، وذلك كعلامة لتنبيه المحامل الأخرى عندما تسير بالقرب منا، وفي غضون أسبوع وصلنا إلى ميناء البصرة في العراق، حيث يعبأ المحمل بالتمر ليتجه به إلى الهند وباكستان، وبعد إفراغه يتوجه إلى ميناء ممبسا في تنزانيا، التي يصلها في غضون شهر كامل أو أكثر، محملاً بالقرنيت، وهو نوع من الفخار الذي يستخدم في أعمال البناء، ومن إفريقيا يعود محملاً بالخشب نوع الجندل والنارجيل وحبال الكمبار، ويومذاك أرجأنا العودة من ممبسا بعض الوقت، ريثما يتغير اتجاه الهواء لمصلحة حركة المحمل». وفي نهاية الرحلة، يختم الشحي، «كان النوخذة يجمع من كانوا معه إلى جوار المحمل، ويقسَّم بينهم عائدات الرحلة، وفي حال الخسارة، فإنها تكون ديناً يتعين على الجميع المشاركة في سداده». الأثرياء هم من كانوا يملكون المحامل وبعد انتهاء السفر يتركونها على البر لموسم مقبل
مشاركة :