الحاجة الماسة لقراءة كتاب من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث يمثّل كتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” لجورج طرابيشي الصادر في العام 2010 استدعاء مكثفا وحثيثا لمجموعة كتب أخرى تحضر بالفعل أو بالقوة، في الكتاب أو في مشروع طرابيشي برمّته، نقد نقد العقل العربي. الكتاب على جدّته وحداثة صدوره ينتمي إلى جنس الكتب المؤسسة والبناءة، إذ يؤسس لنظر جديد للواقع العربي وللتراث العربي الإسلامي بما لفه وغمره من غشاوات والتباسات عطلت تطوره أو اجتهاده. في الكتاب استدعاء للمدوّنة القرآنية الأساسية في التراث العربي الإسلامي، وفي نهل من المدوّنة الخلدونية الكثيفة بمقولات القطيعة والاستمرارية التي سماها طرابيشي النشأة المستأنفة، وفي الكتاب أيضا استدعاء نقدي لمشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري. وإذا أضفنا للكتاب أثره في النظر إلى التحول الخطير من الإسلام القرآني إلى الإسلام الحديثي وتاليا إسلام الفقهاء، ومن إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، فإنه يكتسي أهمية وخطورة بالغتين. “الآليات التي أدت إلى استقالة العقل وغروبه في الحضارة هي آليات داخلية نابعة من انكفاء ذاتي ومن انكماش لهذا العقل على نفسه وليس من غزوة خارجية” هكذا لخص طرابيشي في كتابه “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” تصوّره للازمة الفكرية والحضارية التي تطبع كامل الفضاء العربي الإسلامي، والتي حمّل فيها المسؤولية للمنظومة الفكرية الداخلية ونقد خلالها في آن واحد مدوّنة الجابري. كتاب طرابيشي هو محاكمة للتراث العربي الإسلامي الذي سمحت آلياته الفكرية بالزيغ من مرجعية القرآن إلى مرجعية الحديث بما أدى إلى “إقالة العقل” وتعطيل الاجتهاد، ولعل ما نعيشه اليوم من تمثلات إسلام القدامة تعبير عن أهمية أثر طرابيشي.العرب سعيد ناشيد [نُشر في 2018/01/06، العدد: 10861، ص(16)]انتقال فكري عطل كل مساعي الاجتهاد والتحديث “الانقلاب السني”، هكذا كان العنوان الفرعي الذي اختاره المفكر العربي جورج طرابيشي لكتابه الأخير، قبل أن يستبدله بعنوان فرعي آخر هو “النشأة المستأنفة”. أما العنوان الأساسي فقد ظل كما هو، وكما أراده منذ البداية، “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”. يتعلق الأمر بإصداره الأخير قبل أن يفارق الحياة في منفاه الباريسي. لربما كانت وفاته مفاجئة من وجهة نظر طبيّة، لكنها من وجهة نظر الحياة فقد كانت متوقّعة في أي لحظة. وذلك بسبب حجم الوجع السوري الذي ظل يحمله دون أن يقوى على تحمّله. طرابيشي وسجل النقد كان الراحل جورج طرابيشي يتابع الأحداث الجارية في وطنه الأم سوريا، بقلب ينزف دماً وألماً، وهو الذي خبر أهوال الحرب الأهلية عندما كان مُقيما في بيروت، واضطر في الأخير إلى مغادرة المدينة التي ظل يعتبرها أجمل مدينة في العالم. مباشرة بعد صدور كتابه الأخير، والذي يعتبر تتويجا لمسار حافل من النقد، بدءا من مؤلفات النقد الأدبي وانتهاء إلى مؤلفات نقد التراث، شاءت الأقدار أن تندلع الحرب الأهلية في سوريا، أو بالأحرى شاءت معطيات التاريخ والجغرافية أن تتحوّل الثورة السورية إلى حرب أهلية طاحنة لا أول لها ولا آخر. وأمام هذا الكم من الجحيم العبثي بدأ الراحل جورج في سنواته الأخيرة يفقد القدرة على الكتابة كما اعترف لنا مراراً. لقد عاتبه المعاتبون بادئ الأمر بدعوى أن موقفه من الأحداث لم يكن واضحا كما ينبغي، أو بالأحرى لم يكن متورطا كما ينبغي. لكن الحق يقال، فقد كان وقع الألم على قلبه أشدّ وقعاً وأكثر صدقا من كل المتخندقين لأجل غايات تتعلق بالزعامة أو الغنيمة. في واقع الأمر ليس كل الذين يتألمون يصرخون بالضرورة؛ فأحيانا قد يكون منتهى الألم هو فقدان القدرة على الصراخ. وعلى الأرجح هكذا كان حال الراحل طرابيشي في سنواته الأخيرة.الوسط الشيعي يحتاج إلى مشروع مواز حول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، ينجزه مفكرون ينتمون إلى البيئة الشيعية غير أننا لا نريد الكلام الآن عن الألم السوري الذي أسكت قلب طرابيشي في الأخير، بل نريد الحديث عن كتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”. كان العنوان الفرعي المقرر هو “الانقلاب السني”، غير أن الناشر اللبناني التمس من جورج تعديل العنوان الفرعي درءاً لما قد تثيره عبارة “الانقلاب السني” من سوء فهم بسبب حساسية الوضع اللبناني وحساسية التاريخ أيضا. وهكذا كان. في كل الأحوال يأبى لبنان إلا أن يفرض حساسيته على الثقافة العربية. أليس يقال عن أرض لبنان: قليل من الجغرافيا وكثير من التاريخ؟ غير أني كنتُ ولا أزال أعتبر “الانقلاب السني” هو العنوان الأكثر انطباقاً والأدقّ تعبيراً عن مضمون هذا الكتاب الذي كانت قراءتي له بمثابة ورشة اعتكاف استغرقت مني شهراً من الخلوة القرائية أو يزيد. توصلت بالكتاب وقرأته قبل أن يخرج إلى الأسواق. ولربما كان الإحساس بالسبق عامل غواية لسبر أغوار النص قبل أن يراه الجميع. لكن بمعزل عن الشرط الذاتي الذي بدا متوفرا بكل تأكيد، فإزاء هذا الكتاب مارست فعل القراءة كما لم أمارسه من قبل. لا أدري إن كان بوسعي أن أقول إن هذا الكتاب قد قرأته فعلا؛ إذ لا يبدو الماضي هنا هو زمن الفعل المناسب، فربما التعبير الأكثر دقة وبلاغة أن أقول إني ما أنفك أقرأه إلى اليوم. ثم أني أقرؤه وأقرأ معه، وأقرأ به أيضا وباستمرار. ومن ثمّة لا أعرف أيّ توصيف أعبّر به على هذه القراءة التي لا تحتمل الختم ولا تريد أن تكتمل. مشروع مضاد للتاريخ الرسمي الكتاب حدث ثقافي في الساحة العربية، مشروع قائم الذات ومستقل بذاته عن رباعية “نقد نقد العقل العربي” التي سبق أن ألفها جورج طرابيشي لغاية الرد المعرفي على مشروع محمد عابد الجابري في ثلاثيته المعنونة بـ”نقد العقل العربي”. “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” تتويج لربع قرن من نقد النقد، بناء جديد على أنقاض النقد المنقود، لكنه بناء يفتح ورشات جانبيّة قابلة للإنجاز، وهذا هو أكثر شيء شدّني إلى هذا المشروع. أقول، إن هذا الكتاب/ المشروع، لهو مشروع فاتح لمشاريع مضادّة للتاريخ الرّسمي الذي أوصلنا في آخر المطاف إلى عتبة الباب المسدود. ثمة مشاريع جانبية كثيرة يقترحها الكتاب، ومثلا: * مشروع أوّل بصدد تاريخ ما يسمى بالفتوحات الإسلامية من خلال ارتباط الدعوة المحمدية بجغرافية أم القرى وما حولها وفق التحديد القرآني. * مشروع ثان يتعلّق بتاريخ النص المرجعي للتشريع ومداه: القرآن عموما أو المصحف حصرا، أو القرآن أو المصحف + الحديث النبوي، أو القرآن أو المصحف + الحديث النبوي + الحديث الصحابي، أو القرآن أو المصحف + الحديث النبوي + الحديث الصحابي + الحديث التابعي…إلخ. * مشروع ثالث -وهذا لعلي اشتغلت عليه- بصدد الانتقال من الوحي الرباني إلى القرآن المحمدي وصولاً إلى المصحف العثماني. أو بلغة أخرى علاقة الانقلاب السني بما يصطلح عليه طرابيشي بمصحفة القرآن.الخرافات الشيعية وضرورة مباشرة مشروع نقدي عارم * مشروع رابع -وهذا أيضاً فكرتُ فيه بنوع من الشغف على هامش قراءتي أو قراءاتي للكتاب- يتعلق بالسيرة الجنسية أو الحياة العاطفية لرسول الإسلام، حيث الفارق كبير بين معطيات العقل والقرآن وغرائز العديد من رواة الحديث والسنة. وربما مشروع خامس يتعلّق بالتاريخ التراجعي لحقوق الأقليات، وربما سادس بصدد ما قد يوازي الانقلاب السني عند الشيعة. وهنا أنوّه بالمناسبة إلى ما يلي، لقد اعترف لي الأستاذ جورج طرابيشي بنفسه بأن الوسط الشيعي يحتاج إلى مشروع مواز حول “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث والأئمة”، ينجزه مفكرون نقديون ينتمون إلى البيئة الشيعية. ومسألة أن يكون النقد من الداخل، أو على الأقل من داخل البيئة نفسها، يعدّ من المسائل التي يعيها طرابيشي جيدا، ويحرص عليها. أي نعم، أعيد وأؤكد، لقد تحدثت مع الأستاذ جورج عن هذا الأمر، وأكد لي بأن حجم الخرافات لدى الشيعة أكبر بكثير مما نتصوّر، غير أن ذلك يقتضي مشروعا نقديا موازيا من داخل الفضاء الشيعي هذه المرة. ودعنا نقول في هذا الباب إن جورج طرابيشي ظل متناغما مع بيئته السنية التي مثّلت بالنسبة إليه نوعا من الثقافة الحاضنة رغم أصوله المسيحية. أقول هذا القول، ولن أتردد في إعادة تأكيده مرات ومرات، وذلك لعلمي بوجود من يريد أن يروّج بأن أي عمل نقدي لتراثنا السني هو بمثابة “إضعاف للسنة أمام الشيعة”، ويا للوقاحة ويا للمتاجرة بالمواقف الرخيصة أيضا. وفي كل الأحوال هذا موضوع آخر، قد نعود إليه عند الضرورة. ليس الانقلاب السني مجرّد انقلاب طارئ وجزئي، وإنما يتعلق الأمر بسيرورة انقلابية طويلة الأمد وطويلة المدى أيضاً. طويلة الأمد لأنها استغرقت قرونا طويلة من الزمن امتدت منذ المراحل الأولى لتدوين الحديث واكتملت مع ابن حنبل والانقلاب المتوكلي؛ وطويلة المدى لأن آثارها باقية إلى اليوم، وهي تعيق عملية الانتقال من إسلام القدامة إلى إسلام الحداثة. لا يتعلق الأمر بمشروع مغلق يصنف الأسماء والأشياء وفق أطر مرجعية جاهزة ناجزة، ومن ثمّ يصدر أحكاماً قطعية ثم يغلق الباب على طريقة إما أن تقبل أقوالي أو تصمت، وهو أسلوب الكهنة بالتأكيد ومعهم بعض أساتذة المدرّجات أيضاً. من قيم القرآن إلى انغلاق الفقهاء المفارقة التي يمسك بتلابيبها الناقد الكبير جورج- وأنا هنا مرّة أخرى أفكر به ومعه ومن خلاله- أن المسار الانقلابي بقدر ما ابتعد تدريجيا عن روح الخطاب القرآني، وعن القيم الأساسية للخطاب القرآني لفائدة مدوّنة حديثية تم تضخيمها، فإنه التصق في الأخير بالنص الديني التصاقاً مطلقا أكان النص قرآنا أم حديثا. بمعنى أن ثمة سيرورة انقلابية مزدوجة فارقت قيم القرآن وجمّدتها لأجل أن تمجّد النص في الأخير. أي أنها افترقت عن الخطاب القرآني لكي تدعي تقديس النص القرآني والنص الحديثي معاً. وهذا ما حدث منذ الشافعي وصولا إلى ابن حنبل.وضع جورج طرابيشي، بكتاب من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث أسس مساهمة فكرية قد تحقق اختراقات وازنة في مسألة الإصلاح الديني، على أساس استعادة إسلام القرآن في مواجهة إسلام الفقهاء لربما كانت كلمة المفارقة نفسها من خصوصيات الفكر الإسلامي، وهذا ما لم ينتبه إليه الكثير من مفكري التراث الذين يميلون إلى إصدار الأحكام. ومثلاً، صحيح أن أحكام الإمام مالك كانت أميل إلى التشدد، لكن، وهذا ما ينبه إليه جورج طرابيشي، فإن دائرة النص عند الإمام مالك لم تكن مغلقة، إذ شملت أقوال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأهل المدينة إلخ. وهذا ما كان يمنح للاجتهاد فسحة للانفلات من قبضة النص الجامد. ومن ثمة فإن تشدّد الإمام مالك كان يواري جرأة في الانزياح عن النص، بل كان مالك كثيراً ما يعرض في فتاواه أدلة الإباحة وأدلة التحريم على قدم المساواة، ويترك الاختيار للسائل نفسه. وفي هذا انفتاح نسبي سنفتقده مع الأئمة اللاحقين تدريجيا وبالتدرج من أبي حنيفة (أوائل القرن الثامن الميلادي)، والإمام مالك (أواسط القرن الثامن الميلادي)، والإمام الشافعي (أوائل القرن التاسع الميلادي)، ثم إلى غاية ابن حنبل (أواسط القرن التاسع الميلادي)، ووصولا إلى ابن قيم الجوزية (أوائل القرن الرابع عشر الميلادي)، وعلى الأرجح انتهاء بشيوخ اليوم. في كتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” يضع المفكر العربي جورج طرابيشي أسس مساهمة فكرية قد تحقّق اختراقات وازنة في مسألة الإصلاح الديني، وذلك على أساس استعادة إسلام القرآن في مواجهة إسلام الفقهاء وإسلام الشيوخ. إن الكتاب لهو لبنة أساسية ضمن مشروع يتوجب علينا أن نواصله بحكمة وهدوء وتبصّر. لكن، هل الإصلاح الديني ممكن الآن؟ أم أننا نحتاج فقط إلى قرار سياسي حازم كما يرى البعض؟ أم بالأحرى لا هذا بلا ذاك، ولا ذاك بلا هذا، بحيث يحتاج القرار السياسي الحازم إلى إصلاح ديني شامل، ويحتاج الإصلاح الديني الشامل إلى قرار سياسي حازم في المقابل؟ في كل الأحوال ثمة شيء مؤكد: الاستسلام للمنظومة جُبن، لكن الهروب من المنظومة جُبن آخر، أما الشجاعة فهي الانخراط في معركة تفكيك المنظومة وإعادة صياغتها من الداخل، دون ضمانات مسبقة، ودون أوهام.. لهذا الرهان اسم آخر: الإصلاح الديني. لهذا السبب، لهذا السبب بالذات، نحتاج إلى قراءة كتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” مرات ومرات.
مشاركة :