يشكل انسحاب شركة «رويال دتش شل» من عقد تطوير حقل «مجنون» النفطي في محافظة البصرة، حدثاً ذا أبعاد جيواستراتيجية وصناعية مهمة. إذ يشكل التخلي عن تطوير هذا الحقل العملاق انعطافاً تاريخياً مهماً في دور النفط لاحتلال العراق عام 2003. فقد كشف تحقيق «تشيلكوت» أن شركات النفط البريطانية الكبرى طلبت مراراً من حكومتها أن تؤمن لها، بعد احتلال العراق، حصة مهمة في تطوير الحقول العراقية، إضافة الى إنهاء نظام تأميم النفط. كما كشف التحقيق الذي طلبت الحكومة البريطانية إجراءه للولوج في الأسباب التي شاركت فيها بريطانيا في الاحتلال عام 2003، أن المصالح النفطية الاستراتيجية بين بريطانيا والولايات المتحدة كانت مختلفة في الحرب. فقد تسلم البنتاغون ملف النفط قبل الحرب وبعدها. وكانت طموحاته إطلاق عنان النفط العراقي في الأسواق العالمية، للحد من الدور المركزي السعودي على الساحة النفطية العالمية. ووفق شهادات المسؤولين البريطانيين، تخوفت الشركات البريطانية من فقدان حصتها في الغنيمة العراقية، بخاصة لأن مجموعة البنتاغون حاولت استقطاب الشركات الروسية للعمل في العراق بعد الحرب، كوسيلة لكسب تأييد روسيا أو تعاطفها مع الموقف الأميركي. واستمر البنتاغون في إدارة الملف النفطي بعد الحرب، ما دعا الشركات البريطانية للاستمرار في الطلب من حكومتها الاستمرار في الضغط للحفاظ على مصالح هذه الشركات. وبالفعل، حصلت «شل» على كبرى الاستثمارات النفطية في العراق، من خلال المشاركة في تطوير حقلين عملاقين، «مجنون» وغرب القرنة»، إضافة الى العقد الضخم لتجميع الغاز المصاحب في حقول البصرة وتكريره لمنع حرقه، والمشاركة من خلال هذا المشروع في شركة «غاز البصرة». فازت «شل» وشريكتها الماليزية «بتروناس» بالعقد لتطوير «مجنون»، في منافسة حادة مع كبرى الشركات العالمية. إذ تقدّر احتياطات «مجنون» بـ12.6 بليون برميل، ما يضع الحقل في مصاف الحقول الضخمة العشرة الأكبر عالمياً واستلمت «شل» الحقل في 2010 وكان إنتاجه حينذاك 50 ألف برميل يومياً. وتعهدت وفقاً للاتفاق بأن تطوره خلال سبع سنوات لينتج أكثر من مليون برميل يومياً. وهي ستتركه في الربع الأول من العام الحالي بطاقة إنتاجية تبلغ 235 ألف برميل يومياً. لم يصدر بيان رسمي عن «شل» حتى الآن حول سبب انسحابها. وأعلنت وزارة النفط موافقتها الرسمية على الانسحاب. لكن تعددت وجهات النظر حول خطوة «شل»: هل هي بسبب ضخامة التزاماتها الاستثمارية الدولية التي عليها خفضها في ضوء انحسار أسعار النفط؟ هذا السبب لا يبدو مقنعاً، بخاصة مع تقدمها للاستتثمار في الحقل الايراني «ازاديغان» الضخم والذي لا يبعد كثيراً من الحدود الايرانية- العراقية. أم أن السبب هو إفراطها في الاستثمار في العراق والأخطار الناجمة عن ذلك، مثل تطوير حقل «غرب القرنة» العملاق واستثمار الغاز المصاحب في حقول البصرة؟ أم أنها أرادت تغيير بعض بنود الاتفاق الذي وقعته في مرحلة أسعار النفط المرتفعة. وهل وجدت بغداد مصرة على عدم تغييره نظراً للآثار المترتبة على الاتفاقات مع بقية الشركات» نظراً الى ضخامة الطاقة الإنتاجية للحقل، عاد بعض الشركات التي كانت أبدت اهتماماً بالتطوير سابقاً، فور إعلان «شل»، وكررت اهتمامها بالحقل. فوقعت «توتال» و «شفرون» و «البترول الوطنية الصينية»، مذكرة تفاهم في بغداد في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي لتطوير «مجنون» معاً. شكل إعلان الانسحاب صدمة في القطاع النفطي العراق. والسؤال لا يزال مطروحاً حول الأسباب. وأتى القرار في وقت صعب للعراق سياسياً واقتصادياً. فالبلد يمر في مرحلة مخاض سياسي مهم، بعد تحرير الموصل والأنبار من عصابات «داعش». كما هناك انتخابات نيابية مقبلة هذه السنة والمتوقع تشكيل تحالفات جديدة. والأصعب بالنسبة الى وضع «مجنون» هو الوهن الاقتصادي للدولة بسبب تفشي الفساد بمستويات قياسية في التاريخ الحديث للبلد، ما خلق عجزاً كبيراً في الموازنة العامة وفقداناً للثقة بنزاهة مؤسسات الدولة. والأمر الصعب أيضاً هو الأخذ بخيار الاعتماد على الكادر الوطني لتطوير الحقل خلال نصف القرن الماضي. لكن هاجرت مجموعات كبيرة من الخبراء لأسباب أمنية أو معيشية. اجتمعت «هيئة الرأي» في وزارة النفط في 21 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، واتخذت مجموعة من القرارات بخصوص تطوير «مجنون»، أهمها وفق الخبير النفطي العراقي أحمد موسى جياد، «تشكيل إدارة وطنية تنفيذية لتطوير الحقل، وتحديد الفترة الانتقالية لاستلامه من «شل» في نهاية آذار (مارس) 2018 مع وجود بعض العاملين من «شل» لغاية نهاية حزيران (يونيو) لاستكمال بعض الالتزامات والإجراءات المطلوبة والضرورية، وتحديد الطاقة الإنتاجية للحقل بأكثر من 400 ألف برميل يومياً خلال السنوات المقبلة. وإن من أولويات هذه الإدارة خفض كلفة الإنتاج أكثر من 30 في المئة، وهو المعيار الأساس لضمان كفاءة الإنفاق والإنتاج، إضافة الى تنظيم عملية تعويض العمال الأجانب المغادرين بآخرين محليين». واضح أن هذه القرارات استبعدت الاعتماد على الشركات الدولية. لذا، ستشكل نقلة مهمة في الصناعة النفطية العراقية. فمنذ السياسة التي اعتمدت بدءاً من 2003، حين استبعدت الشركات الوطنية، يعود المجال مفتوحاً لعودتها ولو في شكل محدود. وبما أن الكادر عراقي، فتكاليف التطوير ستنخفض كثيراً. لكنّ هناك ثمناً لهذا. وكما دلت قرارات الوزارة، تم الكلام عن طاقة إنتاجية لنحو 400 ألف برميل يومياً، بدلاً من مليون، والاستمرار في إنتاج 400 ألف برميل من دون تحديد المدة الزمنية. فمدة التطوير ستطول. ويتوقع أن تعتمد مجموعة الخبراء، كما الشركات الدولية، على شركات الخدمة الهندسية. ونظراً الى ضخامة احتياط الحقل، وطاقته الإنتاجية المحتملة، فهذا سيوفر مرونة للعراق في الاستمرار لزيادة طاقته الانتاجية التي تراوح الآن ما بين 4.50 و5 ملايين برميل يومياً (الثانية في «أوبك»). * كاتب عراقي متخصص بشؤون الطاقة.
مشاركة :