رواية تتناول سيرة حياة شخص يتحول إلى غراب مستعرضا تاريخ العائلة، أصدقائه، والمدينة ويرصد تحولات تلك الأخيرة التدريجية الموغلة في صخب الحياة الحديثة.العرب محمود شرف [نُشر في 2018/01/07، العدد: 10862، ص(12)]الرواية تصور عائلة تنتمي إلى الطبقة البورجوازية المصرية (من أعمال حلمي التوني) رواية “صوت الغراب” للكاتب المصري عادل عصمت، الصادرة مؤخرا في القاهرة، هي السادسة في مسيرته الروائية. حصلت روايتاه الأخيرتان؛ أيام النوافذ الزرقاء (دار شرقيات) على جائزة الدولة التشجيعية (2011)، وحكايات يوسف تادرس (الكتب خان) على ميدالية نجيب محفوظ، من الجامعة الأميركية (2016). الرواية ذات عوالم متشابكة، شديدة التعقيد، على الرغم مما يبدو للوهلة الأولى من وضوح في الرؤية. وهي تتناول سيرة حياة شخص يتحول إلى غراب! مستعرضا تاريخ العائلة، أصدقائه، والمدينة. يرصد تحولات تلك الأخيرة التدريجية الموغلة في صخب الحياة الحديثة، فاقدة قيمها الأولى، منسحقة تحت ثقل المتغيرات. لا يمكن وصف هذا العمل بأنه رواية مكان، رغم احتفائه به بشكل أساسي، ورغم ما يشكله المكان من حضور طاغ في وعي القارئ، بتشعباته الكثيفة، وقد رصد عادل عصمت بدقة سيرورة الأشياء وعلاقاتها داخله. يمكن أن نتابع أيضا التصاعد الشفيف للخط الزماني في الرواية، الذي يربط بين تاريخ عائلة البطل الشخصي، وبين وقائع تاريخية مرّ بها الوطن في عمومه، حيث تحضر مشاهد حرب أكتوبر (1973) كمحور زمني، يراوحه الروائي جيئة وذهابا، كلما عنّ له أن يربط الأحداث المتشابكة في وعي بطله. تارة يستدعي “مندور البري”؛ مؤسس تلك العائلة، صانع أمجادها، تلك الشخصية التي نُسجت من حولها الأساطير المتسقة زمانيا ومكانيا أيضا مع طبيعة الأفكار المنتسبة للمكان والزمان. ثم يقفز سريعا إلى عمق البطل، حفيد “مندور”، الذي كان يحمل لعنة ما أيضا، فشجرة عائلته تلك كانت “تطرح كل فترة فرعا معوجّا. في حدود التاريخ المعروف حدث هذا ثلاث مرات. المضحك أنه لا أحد يتذكر”. العائلة تنتمي إلى الطبقة البورجوازية، المتوسطة. من أصحاب الأعمال التجارية المحدودة، يتمثل نشاطها الأساسي الذي أنشأه الجدّ في أعمال العطارة، من خلال متجر يقع في شارع تاريخي بالمدينة. من واقع وتاريخ تلك العائلة يرصد عادل عصمت التحولات التي حدثت لمجتمع المدينة، كعلامة دالة على التحولات الكبرى التي حدثت لمصر. الفترة الزمنية، التي تدور معظم أحداث الرواية خلالها، شهدت انحرافات حادة في وجهة الحياة المصرية؛ والمقصود بها فترة السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي. اضطراب عظيم مرت به البلاد، بعد القرارات الاقتصادية التي اتخذها الرئيس السادات، تحوّل الاقتصاد المصري على إثرها من النمط شبه الاشتراكي إلى الرأسمالي. وقد صاحبه تحوّل على صعيد البنية الاجتماعية التي عانت طويلا من تلك التقلبات الحادة، إضافة إلى اختراق أفكار غريبة، متشددة دينيا، بتشجيع من القيادة السياسية، جماعة كبيرة من الشباب. خضرة، خالة البطل، بحسها الفطري أدركت تغيرات الحياة تلك؛ “بدأ ذلك الاضطراب يثير قلقها عندما اضطرت ذات يوم إلى أن تنزل إلى شارع الخان لتشتري دوبارة تربط بها شروش البصل. صدمها الصخب حول الجامع الأحمدي، وعادت متأكدة من أن الحياة فقدت تماسكها وانفرطت”. “صوت الغراب” كعنوان، يحمل دلالات عميقة تشير إلى أزمة الحياة المصرية في تلك السنوات، تلك الأزمة التي ما زالت تلقي بظلالها على المجتمع حتى اللحظة الحاضرة، وترتبط بشكل عضوي مع خط الحكاية العائلية، التي عانت من وطأة هذه الانحرافات؛ ما جعل الانشقاقات الكامنة بين أفرادها تطفو على السطح، وفي كل الأحوال تظل سيرة المكان تغلف الأجواء.ألم التحولات الإنسانية الحضور النسائي متعدد المستويات في الرواية أيضا، فبخلاف التناحر الذكوري داخل العائلة، على الإرث، أو على فرض السيطرة المطلقة على نسائها المارقات؛ فإن السطوة النسوية على الحياة تبقى حقيقة راهنة، فقط تختلف الأسماء، وتتعدد السمات التي تظهر من خلالها تلك السطوة؛ هناك العمة التي ماتت مجنونة، بعد منعها من الزواج بحبيبها، طبقا لأعراف سائدة. وكذلك الحضور الشفيف للأم، الخالة، والأخت، كدوال مشعة داخل الرواية، رغم اقتصار هذا الحضور على محاولة إثبات التعددية؛ بين الإذعان، المواراة، والمقاومة، على الترتيب. هناك أنساق أخرى من الحضور النسوي؛ سومة، الخادم المتمردة. ابتسام، التي تبحث عن عالمها الشبقي السري. وسيدة المنظار التي راقبها البطل من خلال منظاره المعظم، طيلة أيام، ثم انكسرت صورتها بعد لقاء مباشر، بضبابية شخصيتها، التي تعطي الموقف ميسما يتناسب معه. تنزع الرواية في عمومها إلى البحث في عمق الألم الإنساني، إلى مسايرة الحيرة التي تصاحب وجود الإنسان منذ ميلاده، وحتى عبر حيوات السابقين عليه، علّ اكتشاف أسرار الحياة يكون ممكنا؛ فالبطل، الذي آثر عادل عصمت أن يكون هو نفسه الراوي، دون أن يمنحه اسما؛ ربما دلالة على رمزيته البشرية، يأسره حلم الطيران منذ طفولته. برمزية هذا الحلم التاريخي، لكن اختيار الغراب، بما يحمله من دلالات تتعلق بالدمار والخراب والشؤم، في الحكاية الشعبية، يمثل نقطة فارقة في صناعة حلم الطيران هذا، أو الانعتاق من أسر المعيش، القاتم. يدعم هذه الدهشة ميله إلى انتقاء كل ما يشير إلى اختلال الحياة، والاعتناء بذلك بشكل فلسفي متعمق؛ فصديق البطل، إبراهيم الألفي، الذي درس الفلسفة، وتمثَّل شوبنهاور في كل تصرفاته، وأفكاره، يقول في أحد أحلام البطل “هناك نوعان من الاكتئاب، اكتئاب العالم الجديد، وهو اكتئاب نزق طفولي، رغبة أنانية في متعة لا توفرها كل أشكال الرفاهية التي صنعتها الحضارة الحديثة؛ أما اكتئاب العالم القديم فهو اكتئاب آت من العيش على نفس الأرض آلاف السنين”. وصف عادل عصمت، ببراعة، من خلال صوت الغراب الألم الإنساني، الذي ينساب متأجّجا داخل الروح، وهي في أشدّ حالات الضعف، حينما تكتشف حتمية التاريخ، والجبرية التي تخضع لقوانينها الحياة، رغم كل محاولات الانعتاق. حتى لو أدّى الأمر إلى أن يصير المرء غرابا: “عندما سأتحول إلى غراب، وسيكون هذا التغير مفيدا لي، فهناك على الأسطح العالية لتلك الأبراج سوف أعيش، ناسيا ما كنت أعيشه ذات يوم على أنه ألم لا يُحتمل، سوف أكون هناك لكن بعين أخرى، وبطريقة أخرى في الحياة”. ولد عادل عصمت في مدينة طنطا (86 كيلومترا شمال القاهرة)، في عام 1959، حصل على ليسانس الفلسفة من جامعة عين شمس، ويبدو أنه قد تأثر بشكل عميق بدراسته الفلسفية؛ إذ تتبدّى انعكاسات وتأثيرات تلك الدراسة على أعماله الروائية في عمومها، وبالذات على روايته الأخيرة “صوت الغراب”. كاتب من مصر
مشاركة :