"كلُّ الطرقات التي تعرفنا لن تستطيعَ أنْ تسحبَ تلك الليلةَ من تحت ذلك الجبل ليعرفَ أبي البيتَ إنْ عاد أو لتمحو منها الحرب التي لم تُعِده" تكتب الشاعرة الأردنية مريم شريف نصوصها بوعي يملأه الفقد والغياب ورؤية شفافة وعفوية، فهي تشتبك مع ذاتها وتجليات تجربتها في الحياة والبشر، وربما شكّل فقدها لزوجها تأثيرا قويا على مخيلتها ونسيج صورها ومفرداتها، فهي تفتتح باب مجموعتها الشعرية "ما لا يستعاد" الصادرة أخيرا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان، باسم الزوج عنواناً لقصيدة، وعتبة للمجموعة الشعرية، ومحتوى القصيدة ذاتها، فكان الإهداء إليه، فكأنها تثبت حضوره، وتستعيده في الشعر، ويأتي بعده الأب الذي لم يعد من الحرب. صدر لها من قبل مجموعتان شعريتان، هما: "صلاة الغياب"، 2003، و"أباريق الغروب"، 2007. وفي هذا الحوار معها نتعرف على رؤيتها. مريم الشريف لا تعرف بالتحديد كيف كانت بدايتها مع كتابة الشعر، لكنها أحبّت الكتابة منذ الصغر، عندما كانت في مرحلة الدراسة المتوسطة واظبت على تدوين يومياتيها في المدرسة والبيت، وقالت: "لم أكن أدوّن الأحداث فقط، بل كنت أكتب انطباعات ومشاعر حيال كل ما يحدث حتى لو كان تغيّراً في الطقس، ومع مرور الوقت صار تكرار كتابة محتويات تلك الأيام برتابتها وهدوئها مملأً، ومع هذا الملل بدأت أميل إلى اختصار التعبير عن تلك الأيام بأبيات شعرية لشعراء درستهم أو قرأتهم من قبل، بديلاً عن الكتابة والاستفاضة؛ وليس من قبيل المبالغة أن أقول إنّ قصيدة واحدة قرأتُها مترجمة للشاعر الإنحليزي (كولريدج) هي التي قادتني إلى كتابة الشعر وجعلت الشعر في نظري أقرب وأجمل ما يمكن أن يخاطب العقل والروح، بمعنى آخر أشعر أنني مدينة لتلك القصيدة بكل ما كتبت، لم يخفّ انبهاري الطفولي وانفعالي بتلك القصيدة بمرور الأعوام، ما تزال أجواؤها الفريدة مع شعوري حيالها هما الخلفية الغامضة والثابتة لطريقتي في كتابة الشعر وقراءته". علاقتة مريم شريف باللغة في نصوص "ما لا يستعاد" علاقة خاصة متحررة من القيود، ابتعدت عن اللغة الكلاسيكية الجزلة وحرصت على اللغة البسيطة والتلقائية، وأكدت قائلة: "ربما، لا أتقصّد ذلك بالطبع، أكتب كما أحسّ، أو كما يُمليه عليّ شيء ما في ذاكرتي، لا أعرف بالتحديد، ولكن أحاول أن يكون ذلك بأقلّ قدر ممكن من الكلمات والأصوات، في معظم الأحيان أذهب لأكتب وفي ذهني جملة أو فكرة لا أعرف إلى أيّ فكرة جديدة أو معنى ستأخذني فيما بعد، ولكن ربما هذه التلقائية هي ما يجعل القصيدة تصل إلى القارئ وتحاكي أحاسيسه بعفوية ودون كلفة كبيرة من محاولة تفكيك المعنى، أو تحليل صورٍ غريبةٍ أو معقّدة". ورأت مريم شريف أن قصيدة النثر لا تحتمل الجزالة في اللغة، ويبدو مضحكاً اشتراطُ بعض النقاد أن يكتب الشاعر قصيدة التفعيلة قبل أن يكتب قصيدة النثر، مع أن الشعرية والجمال لا علاقة لهما بقدرة الشاعر على النظم، كم من القصائد التي كانت ستكون جميلة وكاملة لكن كلمات بعينها زجّت قسراً لتلائم الوزن، كان صوتها ووجودها ومعناها يشوّه القصيدة ويقلّل من شاعريتها، يخطئ الشاعر حين يظنّ أنّ القارئ لا يلاحظ المفردة التي أجبرتْ على التواجد في سياقٍ لا يشبهها". وأشارت إلى أنها اختارت اسم مجموعتها الأخيرة "ما لا يُستعاد" بالصدفة، وبسرعة لأنه كان عليها أن تختار، وقالت "ما لا يستعاد" هو اسم إحدى قصائد المجموعة، وهو في تلك القصيدة أحد سطورها، حقيقةً لا أجد أهمية كبيرة للاسم، وغالباً أرسل مجموعات من قصائدي القصيرة إلى الصحف تحت عنوان "قصائد" كي أتهرّب من التسمية، بعض المحررين كانوا يختارون جملة من القصيدة كعنوان لها، وهذا ما فعلته أنا لاحقاً في قصائد المجموعة كلها". وأضافت مريم شريف: "هناك إنتاج عربي هائل لقصيدة النثر، عشرات المجموعات الشعرية تصدر كل عام، ولكن القليل منها يمتلك شخصيته الخاصة وقدرته على الإبهار، الأردن لا يختلف عن بقية محيطه العربي، ولديه أسماؤه اللامعة مثل زياد العناني وأمجد ناصر، هنالك أيضاً جيل شاب من الشعراء لديه الكثير من الرؤى المختلفة والتجريب في أشكال ومواضيع جديدة من الشعر. لا أعرف إلى أيّ حد نجحت قصيدة النثر في الإخلاص لحداثتها ولأسباب وجودها، حين يتحدّث النقد عن قصيدة النثر يكون الحديث عنها عمومياً كحالة سائدة، ونادراً ما تناول النقاد تجربة لشاعرٍ ما بنوع من الدراسة النقدية المعمقة، كي تكون دليلاً في طريق تبدو شائكة ومليئةً بالمناطق المجهولة". وأكدت مريم شريف أنّ "حركة النقد في الأردن جامدة وكلاسيكية إلى حدّ بعيد، أظن أننا لا نكاد نشعر بوجود نقّاد إلاّ من خلال تأليفهم الكتب النقدية الأكاديمية، وتلك المخصصة لدراسة أدباء أكبر مزاياهم أنهم غادروا الحياة، والنقد الذي يكافئ حاصدي الجوائز هنا وهناك. لا يعترف الكثير من النقاد في الأردن بقصيدة النثر، البعض يطلق عليها "نصوص أدبية" عموماً الحال عربياً ليس أفضل بكثير، ولكن تحظى الرواية باهتمام أكبر، ربما لأنّ دراستها أسهل من دراسة الشعر، ربما كان من واجب النقد أن يتناول النماذج الشعرية الجيدة بالدراسة والتحليل، لكن على الشعر أن يمضي قدماً بعينين مفتوحتين دون انتظار أن يأخذ النقد بيده". ولفتت مريم شريف إلى أنها لا تتابع بشكل كبير تطورات قصيدة النثر في مجمل الدول العربية لكن ما تتابعه من قصيدة النثر المصرية والخليجية ترى فيه ما يؤكد أن القصيدة تثبت حضورها يوماً بعد يوم. وقالت "هنالك أشكال جديدة ومواضيع مختلفة ودقيقة، ولكن أعتقد أنّ الحرب في سوريا وحروب العراق والأوضاع المضطربة هناك خلقت نوعاً من الحالة الشعرية القاسية لدى الجيل الشاب خصوصاً، هنالك دواوين شعرية لشعراء عراقيين شباب، لو استطعتَ أن تكمل قراءتها حتى النهاية ستحسّ أنك كنت تقطع شارعاً مليئاً ببرك الدماء والجثث والأطراف المبتورة والأمهات الباكيات. هذا مؤلم جداً، وكأنّ الموت والألم هناك تفوّقا على الحياة وعلى الشعر. إن التجارب الجيدة تفرض وجودها ولها جمهورها من القراء، ربما مع الوقت وفيما تطوّر قصيدة النثر أساليبها وأشكالها وشاعريتها تكون قد شكّلت قواعدها المهمة ونظرياتها التي سيأخذ بها النقد فيما بعد على أنها قواعد ذهبية لكتابة قصيدة النثر". • مقاطع من قصائد الشاعرة: سأكلِّم صوتك ظلَّ هنا حين ذهبتَ الأشياء الصامتةُ هي صوتكَ الأشياء المألوفة صوتك الذي لا تخفتُ أجراسهُ صوتك الذي لا يذهب كالأيَّام. *** هنالك صوتٌ لكلماتك وصوتٌ لصوتكَ صوتٌ عميقٌ وبعيد كآخر الأرض تَعرفهُ روحي تذهبُ إليه أحياناً تحيا هناك مثلما تحيا الروح في جسد. *** في كلماتهِ القليلةِ أبحثُ عن قطرة ماءٍ عَلِقَتْ بسَقفِ إحدى الكلمات أبحثُ في قطرة الماءِ عن نهر أبحثُ في النَّهرِ عن كأسي التي أضعْتُها منذ سنين أُلَمْلمُ الرؤى التي أحاطتِ السَّرابَ منذ الأزل أُشاهدها تلوي عُنقَ السِّنين وتُعَبئُ النَّهرَ في كأسي أشاهد الكون يتبادلُ الدَّورَ مع الكأس التي شَربْتُها للتَّو. محمد الحمامصي
مشاركة :