يوسف أبولوز تعود مرجعيات العمل الثقافي في الإمارات إلى عشرات؛ بل مئات السنوات قبل قيام الدولة الاتحادية في العام 1971، فقد كانت الفترة الزمنية الواقعة في النصف الأول من القرن العشرين فترة نشاط ثقافي متصل بدول الجوار مثل الهند، وكان للتجار دور حيوي في ذلك النشاط الريادي الثقافي، إضافة إلى دورهم في إنشاء المدارس، وتشجيع التعليم، ويشير الأرشيف الثقافي الإماراتي سواء المدون منه أو المحفوظ في ذاكرة رجالات الإمارات الرواد إلى شعراء وشاعرات ومطاوعة في مرحلة التعليم غير النظامي لهم دور أولي في بدايات التكوين الثقافي المحلي. تستحضر الذاكرة دائماً الماجدي بن ظاهر، وراشد الخضر، وشعراء الحيرة، وغيرهم من رموز تؤكد ريادية ثقافية أو حالة ثقافية إماراتية مبكرة، علاوة على اتصال أوائل الأدباء الإماراتيين بأقرانهم في بعض الدول العربية مثل لبنان والعراق.عند قيام دولة الإمارات العربية المتحدة كانت الثقافة وما زالت من الأولويات في البرامج والمؤسسات والدعم والرعاية المادية والمعنوية، وتوازى دائماً مسار التنمية الثقافية في الإمارات مع مسارات الاقتصاد، والإعمار، والاهتمام العملي بالتراث والثقافة الشعبية؛ ليجد الكتّاب والمثقفون الإماراتيون أنهم في بيئة حاضنة للثقافة بتعبيراتها المحلية وأبعادها العربية والعالمية الحضارية، وفق رؤية إماراتية متقدمة دائماً بخصوص العمل الثقافي، واعتبار الثقافة جسر حضارات وتشاركات فكرية ومعرفية مع نخب العالم ورموزه المبدعة، وتقوم هذه الرؤية على قطبين مهمين وواضحين: أولاً: الانفتاح على العالم والحداثة والمعاصرة بمفرداتها المدنية الإنسانية، وثانياً: المحافظة القصوى على مفردات التراث والثقافة الشعبية والذاكرة المحلية، وأصبح هذا التوازن بين المعاصرة والتراث سمة واضحة في طبيعة الثقافة الإماراتية، التي أخذت تنمو وتتكرس محلياً وعربياً وعالمياً من خلال الكتّاب والمثقفين والمبدعين والفنانين الإماراتيين من جيل إلى آخر.لقد أصبح للمثقفين الإماراتيين مؤسسات عمل تهتم جذرياً بالخطاب الثقافي المحلي وتعززه وترعاه كما قلنا قبل قليل مادياً ومعنوياً.ظهرت في السبعينات والثمانينات مؤسسات ودوائر وكيانات ثقافية محلية ستكون منصات عمل ومنصات انطلاق للكتّاب الإماراتيين، وإذا أخذنا في الاعتبار مفهوم المجايلة أو الأجيال الثقافية، فإن جيل السبعينات والثمانينات هما قاعدة ظهور تلك الكيانات والمؤسسات مثل دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، واتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، والمجمع الثقافي في أبوظبي، الأمر الذي يمكن القول إنه نظم العمل الثقافي الإماراتي بحيوية مؤسساتية مضاعفة اليوم في المشهد المحلي، الذي تزايدت وتنوعت مؤسساته ودوائره المتخصصة.عندما نتحدث عن حلقات الأجيال الثقافية في الإمارات، وعندما نتحدث أيضاً عن مشهد ثقافي محلي يحضر بالضرورة الاقتصاد والنمو الاقتصادي المتزايد، والمتجه دوماً إلى النجاح والتفوق محلياً وعربياً وإقليمياً، ونشير هنا إلى أن التنمية الاقتصادية يتبعها، بالضرورة، تنمية الثقافة، أضف إلى ذلك أن مناخ الاستقرار العام الذي تنعم به الإمارات هو مناخ مشجع على الإنتاج الثقافي والاستثمار في الثقافة وفي الإنسان.مناخ الأمن والأمان والتعايش الاجتماعي والتنوع الثقافي في طبيعة المجتمع الإماراتي وطبيعة تركيبته السكانية الغنية بالثقافات والحضارات، هو بامتياز مناخ ثقافي إنساني عالمي شجع، بالتالي، على ولادات إبداعية متتالية نشير دائماً إليها على شكل حلقات وهذه الحلقات هي الأجيال الثقافية التي تتواصل دائماً ويكمّل بعضها بعضاً منذ السبعينات وحتى اليوم. الثقافة والاقتصاد والتعليم مثلما نربط بين البيئة الاقتصادية والبيئة الاجتماعية السكانية والثقافة، نربط أيضاً بين الثقافة والتعليم، وكما نعلم فإن قطاع التعليم هو الأقرب لقطاع الثقافة، إن لم تكن الثقافة أساساً هي ابنة التعليم. أوجدت الإمارات منظومة تعليم معاصرة تلبي متطلبات المجتمع والدولة وفق رؤية معاصرة تلتقي مرة ثانية مع ما هو تراثي ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن جيل الثمانينات -على سبيل المثال-، وهو جيل حيوي معروف في الذاكرة الثقافية الإماراتية (شعراء وكتّاب قصة) هو الجيل الذي ولد من المنظومة التعليمية الإماراتية التي تأسست منذ مطلع السبعينات، أي مع قيام الدولة، أي أن هناك نحو عشر سنوات أو خمسة عشر عاماً كانت كفيلة لولادة مجموعة من الكتّاب كانوا قد تلقوا تعليمهم منذ 1971 وحتى منتصف الثمانينات.هذه الملاحظة مهمة من حيث صلة التعليم بالثقافة، واليوم في الإمارات شبكة كبيرة من المدارس، والجامعات والأكاديميات والمعاهد ومراكز البحوث والدراسات والتعليم العالي كلها تصب في مصلحة الإنتاج الثقافي الذي ينهض بالضرورة على أجيال الكتّاب والمثقفين والمبدعين في الدولة.الوسط الثقافي في الإمارات، وبخاصة في العقدين الماضيين، هو أيضاً «وسط» حزمة من التكريمات والجوائز والمحفزات على الإبداع والكتابة والمنتج الثقافي، وتوجهت الكثير من هذه التكريمات إلى كتّاب ومبدعين وفنانين شباب.«..بالإضافة، بالطبع، إلى تكريم الكتّاب العرب»، ونحن نشير هنا إلى هذه النقطة، أي نقطة الوسط التكريمي الإماراتي لأجياله المبدعة (تكريم الرواد مثلاً) على اعتبار أن هذه الاحتفاءات التشجيعية والتكريمية هي أساساً نتاج المحصلات الأدبية والثقافية التي حصدها الكتّاب والمثقفون الإماراتيون، ومرة ثانية في إطار بيئات اقتصادية وتعليمية واجتماعية ومؤسساتية عملية ومستقرة من حيث الدعم والتمويل جعلت من الإمارات دولة معرفة وثقافة وعلوم وفنون.نشير أيضاً قبل «نشر» خريطة بانورامية للأجيال المتتالية في الشعر، والقصة والرواية والمسرح إلى الدور الصادق والأمين لمجموعة من الكتّاب العرب المقيمين في الإمارات، فهؤلاء كانوا ومازال البعض منهم شركاء فعليين في المشهد الثقافي الإماراتي سواء في الكتابة أو المشاركة في عمل المؤسسات الثقافية، وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من طبيعة هذا المشهد، ومن المعروف أن بعض الكتّاب العرب تأسس هنا في الإمارات واكتسب روح الثقافة المحلية وروح المكان، وهؤلاء أيضاً من حيث المجايلة أو الأجيال لا ينفصلون عن التكوين الثقافي لأقرانهم الإماراتيين.في الإمارات شعراء وروائيون وكتاب قصة ومسرحيون وإعلاميون وتشكيليون عرب جاء بعضهم إلى الإمارات منذ السبعينات، وهم أيضاً لهم أجيالهم.. البعض غادر الإمارات بتكوين ثقافي إماراتي عربي عالمي، والبعض اختار الإقامة والعيش في البلاد؛ لأنه رأى أن روحه هي من روح المكان ومفرداته الحميمة الأصيلة. الصحافة الثقافية عندما نتحدث أو نشير إلى موضوع الأجيال الثقافية في الإمارات لا ننسى أمرين مهمين أولاً: الصحافة الثقافية والترجمة.قامت الصحافة الثقافية في الإمارات على عنصرين.. الأول محلي إماراتي، والثاني العنصر العربي، غير أن المهم هنا أن هذه الصحافة المتخصصة ظهرت مع ظهور المؤسسات الثقافية المتخصصة في أواخر السبعينات، وفي الثمانينات من القرن الماضي، غطت الأنشطة الثقافية المحلية، ومازالت، أعطت مساحات محترمة للنص الأدبي الإماراتي، وأتاحت له قراءة انطباعية صحفية أحياناً، وأحياناً قراءة نقدية متخصصة بشكل خاص في الملاحق الثقافية الأسبوعية.إن من يعد إلى أرشيف هذه الملاحق منذ الثمانينات وحتى اليوم يجد ما يمكن تسميته «خريطة طريق» سهلة للأجيال الثقافية الإماراتية، وأكثر من ذلك الأجيال المسرحية، والأجيال التشكيلية؛ ذلك أن الصحافة الثقافية الإماراتية كانت ومازالت منابر مفتوحة للفنون البصرية والأدائية بوصف الثقافة مدى واسعاً شمولياً يستوعب هذا المدى حتى المعمار، والأثر، والزي، والغناء والموسيقى.أما الترجمة مع وجود الفاصل الذهني بين الترجمة والصحافة الثقافية فقد نقلت النص الإماراتي إلى لغات أخرى؛ ولكن في حدود ضيّقة، (اجتهادات الشاعر د. شهاب غانم على سبيل المثال). غير أن الكاتب الإماراتي؛ بل المثقف الإماراتي عموماً، وفي السنوات الأخيرة قد انفتح على كنوز معرفية وجمالية وفنية في الآداب والحضارات والجماليات والفلسفة والفكر والنقد من خلال مشروع الترجمة في أبوظبي «مشروع كلمة»، الذي تستفيد منه اليوم كل الأجيال الثقافية الإماراتية، وبخاصة الجيل الجديد (الراهن) من كتّاب رواية وقصة وشعر. فضاءات الشعر من رواد الشعر الإماراتي سالم بن علي العويس ١٨٨٧ وإلى ١٩٥٩ ومن الرواد أيضاً الشاعر د. أحمد أمين المدني ١٩٣١- ١٩٩٥ وإبراهيم المدفع ١٩٠٩-١٩٨٣، ويذكر الباحث بلال البدور في موسوعة شعراء الإمارات- الجزء الأول الشعر العمودي نحو 100 شاعر الكثير منهم يعتبرون الجيل الشعري في الإمارات وخطهم الأدبي هو القصيدة الخليلية، ومن هؤلاء، بالطبع، لا ننسى سلطان بن علي العويس ١٩٢٥-١٩٩٩، غير أن السبعينات والثمانينات من القرن العشرين ستكون فضاء مفتوحاً لجيل شعري جديد يذهب إلى قصيدة التفعيلة: حبيب الصايغ، عارف الخاجة، ظاعن شاهين، وتالياً في التسعينات يظهر جيل آخر هو امتداد لقصيدة العمود والتفعيلة ويمثله إبراهيم محمد إبراهيم على سبيل المثال لا الحصر.التسعينات وما تلاها هو جيل قصيدة النثر في الإمارات «نشير إلى أسبقية وريادة ظبية خميس» ومن هذا الجيل: عبدالعزيز جاسم، ثاني السويدي، عادل خزام، خالد الراشد، خالد البدور، نجوم الغانم، وتالياً: أحمد العسم، وعبدالله السبب، وخلود المعلا، ومحمد المزروعي وغيرهم من شعراء وشاعرات يكتبون قصيدة النثر ظهروا بعد 2000 وإلى جانبهم أيضاً من هو منتم تماماً للعمودي، والبعض للتفعيلة، غير أن الأجيال الشعرية الجديدة في الإمارات بعيداً عن رواد العمودي وبعيداً أيضاً عن اعتبار العشر سنوات هي جيل نقول يمكن اعتبار الأجيال الشعرية الإماراتية متمثلة في ثلاثة (السبعينات أو نهايتها مع الثمانينات جيل) والتسعينات جيل، وما بعد عام 2000 جيل، وهؤلاء يكتبون الأشكال الشعرية الثلاثة: العمودي والتفعيلي وقصيدة النثر. فضاءات القصة القصيرة عند الحديث عن القصة القصيرة في الإمارات نعود دائماً إلى كتاب «كلنا كلنا، كلنا نحب البحر» وهو أول إصدار عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات نجد فيه من كتب القصة القصيرة في منتصف السبعينات وهو عبدالله صقر أول كاتب قصة قصيرة صاحب مجموعة «الخشبة»، غير أن جيل الثمانينات القصصي في الإمارات معروف لأي متابع ثقافي، وهو جيل علم بالفعل وتمثل في الأسماء المعروفة التالية: ناصر جبران، وناصر الظاهري، إبراهيم مبارك، سلمى مطر سيف، مريم جمعة فرج، جمعة الفيروز، وغيرهم من كتاب وكاتبات تلا ذلك جيل التسعينات مثل صالحة غابش التي تكتب الشعر والقصيدة القصيرة.تلا التسعينات جيل آخر توجه إلى القصة والرواية، واليوم، بشكل خاص، ظهرت مجموعة من الأقلام النسائية (الشابة) شغوفة بالرواية إلى جانب الشعر، وهي امتداد للأجيال السابقة من قصاصين وقاصات مع الاختلاف، بالطبع في الأساليب واللغة والموضوعات. على أي حال، نحن الآن في المشهد السردي الإماراتي أمام أقلام إبداعية جديدة، وعلى سبيل المثال: إيمان محمد، مريم الساعدي، فتحية النمر، سلطان العميمي، وغيرهم. الملاحظ أيضاً توجه الشاعر إلى السرد مثل تجربة الشاعر كريم معتوق في روايته «حدث في إسطنبول» وله رواية تحت الطبع بعنوان «رحلة ابن الخراز». مرجعيات روائية أول عمل روائي إماراتي كان بقلم راشد عبدالله النعيمي بعنوان «شاهندة» وموضوعها الاتجار بالبشر أو النخاسة وشاهندة اسم الفتاة بطلة الرواية الفائقة الجمال والتي تخضع إلى الرق، ونحن نقف بإعجاب أمام هذه الرواية التي سعت إلى اكتمال شروطها الفنية قبل نحو أربعين عاماً بلغة جاذبة.أما العلم الروائي الإماراتي فهو بلا منازع الكاتب علي أبو الريش الذي وضع حتى الآن حوالي عشرين رواية تنهل من روح المكان الإماراتي وثقافته وإشاراته التراثية والاجتماعية، ويعتبر أبو الريش واحداً من أفضل مئة روائي عربي بحسب تقييم إحدى مؤسسات القياس الأدبي التقييمي، وهو حصل على جائزة الإمارات التقديرية للعلوم والفنون والآداب عام ٢٠٠٨.لا نستطيع الجزم بأن الرواية في الإمارات قد حققت ما وصلت إليه الرواية في مصر مثلاً، ولكن نجزم أنه فن عرفه الكاتب الإماراتي مبكراً (شاهندة). ونجزم أن كاتباً مثل علي أبوالريش هو ظاهرة روائية إماراتية؛ بل هو وحده جيل روائي بغزارته وصبره وتحولاته السردية المجددة. موازيات إبداعية توازي أجيال الشعر والقصة والرواية أجيالاً أخرى في المسرح، وفي الفنون التشكيلية، في المسرح منذ فرجة سلطان الشاعر في ستينات القرن العشرين، مروراً بتكوين الفرق المسرحية في الأندية الرياضية وتجارب المخرجين العرب مع المسرحيين الإماراتيين جواد الأسدي مثالاً، ثم أيام الشارقة المسرحية، ومسرح الشباب، والمسرح الجامعي، والمسرح المدرسي، ومسرح الطفل، وحتى المسرح الصحراوي نحن أمام ثلاثة أو أربعة أجيال مسرحية جعلت من فن الخشبة في الإمارات ركناً رئيسياً من مكونات العمل الثقافي الإماراتي.هناك أيضاً أجيال تشكيلية كانت نقطة بدايتها مع تكون جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في مطالع ثمانينات القرن العشرين تعاين مثلاً جيلاً تشكيلياً يأخذ من المكان الإماراتي «عبدالقادر الريس»..، الأبواب، البراجيل، النوافذ، البيوت.. ثم جيل آخر يذهب إلى التجريد عبدالرحيم سالم، ثم جيل آخر يخرج من اللوحة ويتجه إلى العمل الفني (المفاهيمي): حسن شريف، حسين شريف، محمد كاظم، إلى فناني الأداء والجسد والنحت والتركيب وغير ذلك من مفاهيم تشكيلية معاصرة، فكرية وفلسفية نجد أمثلتها الإبداعية في أرشيف بينالي الشارقة.
مشاركة :