لقد استمتعت بقراءة كتاب: (مع العميد في ذكراه.. بمناسبة مرور أربعين عاما على وفاة طه حسين) لسكرتيره الأخير أ.د. محمد الدسوقي الذي رافقه في العقد الأخير من عمره 64-1973هـ والذي صدر مؤخرا عن سلسلة اقرأ دار المعارف رقم 770. إذ قال إن عاطفة طه حسين نحو المرأة في حالة من السكون حتى وقع اختياره على فتاة فرنسية لتكون مساعدة له في القراءة والتنقل أثناء دراسته في فرنسا، وقال: إن سلوك هذه الفتاة الذي اتسم بالرقة والحنو والاهتمام بأبحاثه ودراساته أثره في تحريك مشاعره نحو المرأة.. مما دفعه إلى أن يصرح لها بما خفق به قلبه نحوها، ولم يجد منها ما يصدم عاطفته أو يخيب آماله... وعندما استشارت أهلها في الاقتران به عارضوا بشدة إذ كيف تتزوج امرأة فرنسية مسيحية رجلا ضريرا شرقيا مسلما.. ومع ذلك لم تصغ لقولهم، وتم الزواج الذي سعد به العميد، وكانت بداية مرحلة جديدة في حياته. قال عنه: إنه إنسان رقيق المشاعر يتألم إذا قرأ خبرا عن حادثة أو كارثة. وكان يردد: أعوذ بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال: «...وكان الناس يعتقدونه ثريا ولكنه مستور الحال، فهو لا يملك عقارات ثابتة أو منقولة، وليس له رصيد ضخم في أي مصرف، وكان دخله يتمثل في معاشه ومكافأة العضوية في بعض الهيئات العلمية، وما تدره كتبه عليه من أموال كانت تقريبا نحو ثلاثة آلاف جنيه في كل عام وكان هذا المبلغ ينفق في رحلة الصيف». وقال: إنه كريم معطاء يجود بماله على ذوى الفاقة والحاجة وبخاصة أهله ورحمه.. وكان الناس يعرفون في العميد كرمه وإنسانيته، ولذا كانوا يطرقون بيته في الصباح أو في المساء، وما كان يرد إنسانا دون أن يقدم إليه ما يستطيع، وكان هذا يثير زوجته في كثير من الأحيان -مع أنه كان يحاول إخفاء ما يجود به عنها-. وقال إنه منح ثماني درجات دكتوراة من مختلف الجامعات العالمية، وترجمت بعض مؤلفاته وبخاصة الأيام إلى كل اللغات المعاصرة تقريبا.. والذي تسنم أرفع المناصب العلمية هذا الأديب العبقري. لم يعرف الغرور سبيلا إليه، وكان إذا أطراه إنسان فإنه يبتسم في حياء ويقول لمن يشيد به ويعدد مناقبه، (حيلك، حيلك) أي إنك أسرفت وجاوزت حد المعقول. ومما قاله الدسوقي -عن أيامه الأخيرة- «...وكانت لزوجة العميد في العقد الأخير من عمره الكلمة الأولى في البيت حتى في علاقة العميد ببعض أصدقائه، فقد سألت يوما الأستاذ الزيات (أحمد حسن) عن أسباب فتور علاقة الصداقة بينه وبين العميد، فقال: إن زوجة العميد هي المسؤولة عن فتور هذه العلاقة، لأننا كنا إذا ذهبنا إليه ليخرج معنا في نزهة أو الجلوس في مكان خاص فإن زوجته كانت تزعم أن حرارته غير مستقرة، ولا يستطيع الخروج، وكان العميد لا يعقب على قولها، فكنا بعد ذلك لا نذهب إليه حتى فترت العلاقة، وأصبحنا لا نراه إلا في المجمع اللغوي...». وذلك كما قال من خوفها عليه إذ قال: «...إن زوجة العميد قامت بمسؤوليتها نحو زوجها في صدق وإخلاص وعطف وإحسان...». وقال العميد يخاطب ابنته (أمينة) في آخر الجزء الأول من الأيام ما طرأ على حياته بعد الزواج من والدتها (سوزان) ويصفها بالملك قائلا: «...أتعرفينه، انظري إليه، هو هذا الملك القائم الذي يحنو على سريرك إذا أمسيت لتستقبلي الليل في هدوء ونوم لذيذ، ويحنو على سريرك إذا أصبحت لتستقبلي النهار في سرور وابتهاج. ألست مدينة لهذا الملك بما أنت فيه من هدوء الليل وبهجة النهار. لقد حنا يا ابنتي هذا الملك على أبيك فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملا، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفوا...». فما أسعد الإنسان عندما يعيش بمثل هذه السعادة طوال حياته الزوجية فرغم مرضه وعجزه في أيامه الأخيرة، ورغم تعرضه لمرض الزهايمر، وحتى صعوبة تناوله لطعامه وقضاء حاجته وتناول أدويته، لقد بقيت إلى جانبه تحنو عليه وتتلطف به وتطلب من الخادم عندما يسمع قرعة الجرس الواحدة أن يسرع لمساعدتها على حمله إلى المرحاض أو إلى سريره.. وهكذا هي الحياة السوية السعيدة. abo-yarob.kashami@hotmail.com
مشاركة :