عزبة الصفيح ملجأ مرضى الجذام في مصر

  • 1/8/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عزبة الصفيح ملجأ مرضى الجذام في مصريتخذ مرضى الجذام في مصر من قرية عزبة الصفيح بمحافظة القليوبية (شمال القاهرة) ملجأ للهروب من تغيرات طرأت على مظهرهم الخارجي، وتسببت في انزواء الناس عنهم، إلى درجة جعلتهم يتبادلون الحديث مع الغرباء من خلف ستار وهمي، بسبب مرض يأبى الرحيل دون ترك أثر يبقى حتى الرحيل.العرب محمـد عبدالهادي [نُشر في 2018/01/08، العدد: 10863، ص(20)]سجن ضيق مدى الحياة القليوبية (مصر)- تتشابه مظاهر العيش في بيوت مرضى الجذام، فهي لا تتعدى غرفة صغيرة يتوسط أرضيتها بساط متهالك، يفترشه صاحب الدار في انتظار انفراجة، وسماع خبر سار بقدوم أحد فاعلي الخير إلى المستعمرة العلاجية الخاصة بهم، وترك تبرعه من مال أو طعام، بعد أن ضاقت بهم سبل العيش، حتى من خرجوا إلى سوق العمل يجبرهم المرض على قبول أي عمل وأي أجرة. قرية صغيرة في منطقة الخانكة التابعة لمحافظة القليوبية، وتبعد نحو 35 كيلومترا عن القاهرة، يتجمع فيها هؤلاء المرضى رافعين شعار “كلنا غرباء ولن نفكر أبدا في العودة إلى بلادنا الأصلية”، فمنذ إصابتهم بالجذام لم تطأ أقدام معظمهم إلا مكانين اثنين، المستشفى الذي يتلقون فيه العلاج ويحمل اسم “مستعمرة”، وأرض العزبة التي تم تأسيسها لتكون وطنا بديلا لمن تعافى منهم ولا يرغب في العودة إلى وطنه الأصلي. لا يرغب المصابون بالجذام حتى بعد تعافيهم، في تغيير الصورة النمطية عن ملامحهم، قبل توحش المرض الذي ألقى بهم داخل “العزبة”، فبعضهم مر على رحيله عن موطنه الأصلي أكثر من نصف قرن، لم ير خلال هذه الفترة أهله أو أصدقاءه، كما أنهم لا يميلون للعودة إلى مسقط رؤوسهم بتشوهات خلفها المرض لأياد اعوجت أصابعها أو تم بترها أو عيون مختبئة خلف النظارات الشمسية الغليظة. وتصل مخاطر الجذام إلى درجة تعرض أطراف البعض للبتر، ويعود ذلك إلى فقدان القدرة على الشعور بالألم، وهو أحد الأعراض المتطورة للمرض، الذي يسبب ضعف البصر، أما التوصيف الطبي للجذام فهو عدوى مزمنة تنجم عن البكتيريا الفُطْرية الجذامية والفُطْرية الجذامية الورمية.المستعمرة اسم على مسمى بعيدا عن الناس في بداياتها لا تكون العدوى مصحوبة بأعراض محددة، وتبقى مدة تتراوح بين خمسة أعوام وعشرين عاما، وتسبب أوراما حبيبية في الجهاز العصبي والعينين، فضلا عن ضيق في الجهاز التنفسي. أما “المستعمرة” -الملجأ الأول للمتعايشين مع الجذام- فهي جزء من عزبة الصفيح، أطلق عليها هذا المصطلح (مستعمرة) لأن المريض بعد شفائه من المرض يظل حبيسا هناك بعيدا عن أعين الناس. وفقا لأحد سكان العزبة المعروفة في دفاتر الحكومة باسم “عزبة الشهيد عبدالمنعم رياض”، فقد بنيت بمبادرة شخصية من أحد المرضى القدامى، يدعى عبداللطيف أبوزيد، لجمع شتات المرضى الرافضين للعودة إلى بلادهم، إذ أقام أكواخا بطوب اللبن، وصُنِعَتْ أبوابها من عبوات المسلي المعدنية الكبيرة، لذلك أطلق عليها اسم “عزبة الصفيح”. بمرور الوقت تحولت تلك الأكواخ إلى مبان خرسانية صغيرة، لكن بقي الاسم القديم في الأذهان، وظلت البيوت تحمل سمة فريدة إذ ليست لها أبواب خشبية فكل الأبواب مصنوعة من الحديد، حتى في الكثير من منازل الأصحاء. توجد بيوت مرضى الجذام بجوار بيوت الأصحاء الذين وفدوا للعيش في القرية غير عابئين بالمرض أو المرضى، مستغلين في ذلك رخص أسعار الإيجار هناك، وقد يستطيع أحدهم الحصول على منزل بإيجار شهري لا يتجاوز ثلاث مئة جنيه مصري (17 دولارا)، فضلا عن وجود مصانع كثيرة في قرى قريبة من “عزبة الصفيح”، ما يتيح لهم الحصول على فرصة عمل. وصمة مجتمعية يختار من تعافى من المرض العزلة، لأن آثار المرض تظل ظاهرة على ملامحه الخارجية، فالمرض الذي أصبح قابلا للعلاج منذ عام 1984، يخلف وراءه تشوهات في الجلد وتيبسا في الأطراف، ليظل المتعافى يحمل السمات الخارجية التي تصيبه بوصمة اجتماعية تمنعه من الاختلاط بالغير. يقول بعض المرضى “خرجنا من قرانا قبل أن تتغير ملامحنا، ومعارفنا القدامى يعتقدون أننا نعمل في القاهرة أو سافرنا إلى الخارج، لا نريد أن يغيروا عنا تلك الفكرة، ولن نرجع إلا ونحن موتى في أكفاننا، وحتى بعضنا يرفض العودة دون روح، وسيدفن غريبا في مقابر العزبة كما جاء إليها وحيدا”. عبدالمقصود إبراهيم جاء من مدينة دمياط (شمال مصر)، مسقط رأسه، حاملا المرض وهو لا يزال في العشرين من عمره، ويقول العجوز السبعيني لـ”العرب” إنه لا يفكر إطلاقا في العودة مجددا إلى بلدته، وكانت يداه كافيتين لإعطاء مبررات قراره، فقد حملتا قصة صراعه مع المرض، وفقد عددا من أصابعه حتى أنه يجد صعوبة في فتح باب منزله. في منزله المتواضع كان عبدالمقصود مستلقيا على “حصيرة” متهالكة، وفي أثناء حديثه شكا من مضايقات الأطفال الصغار في العزبة، ما يدفعه إلى مطاردتهم والركض وراءهم وتهديدهم بعصا خشبية. وصل الرجل إلى مرحلة متأخرة من المرض، بسبب بطء في تشخيص علاجه، وحال تأخر العلاج أو إهماله تحدث تشوهات في الوجه ومشكلات متعددة في العينين قد تصل إلى فقدان البصر، إضافة إلى قروح مزمنة ومتكررة، بسبب تراكم الميكروبات في تلك الجروح، وهذا ما حدث مع عبدالمقصود.عزلة تامة لا ينشغل مرضى الجذام بما يدور خارج محيط عزبة الصفيح، ورغم أن عبدالمقصود تخطى سن السبعين بأعوام قليلة، فإنه لا يعرف شيئا عن أوضاع مصر عموما ولا تعنيه مشكلاتها أو أزماتها، ولا يعرف شيئا عن أهله في دمياط. يخشى مرضى الجذام استقبال أي شخص غريب في منازلهم، لذا كان الحديث معهم أمرا بالغ الصعوبة، تم بعد إقناعهم بضرورة نقل معاناتهم إلى المجتمع، رغم ذلك فإن مريض الجذام ينظر إلى الآخرين على أنهم لصوص يريدون سرقته، وكل ما يريده هو السلام الذاتي في صراعه الطويل مع المرض. كل ما يمكن اكتشافه عن حياتهم مجرد لقطة سريعة أثناء فتحهم لأبوابهم الحديدية، تلك النظرة كفيلة بمعرفة المعاناة التي يكابدونها في كل الأوقات، وتخيل كيف يقضون حياتهم اليومية في روتين لا يتغير؛ الوحدة والانتظار حتى انقضاء اليوم. الرضا بالقدر في العزبة الصغيرة الرضا بالقدر جزء من السمات المشتركة للأهالي الذين يفتقدون الكثير من الخدمات الصحية والتعليمية، لكنهم يدينون بالولاء للمكان الذي استوعبهم، قائلين “هنا لا نشعر بالخزي أو الخوف من نظرة المجتمع الاشمئزازية، وهناك فقط يمكن أن نرفع رؤوسنا وننظر لبعضنا البعض دون الشعور بالخزي”. تعيش الغالبية العظمى من المرضى كبار السن أو المصابين بإصابات شديدة على التبرعات الخيرية، فبمجرد قدوم فاعل خير إلى المستعمرة يخرجون جميعا للحصول على التبرعات، والمتغيب يحصلْ زملاؤه على حصته ويسلمونها له في منزله. يُجبر المرضى الشبان على العمل في مزرعة المستعمرة المتخصصة في زراعة التين الشوكي، طالما أنهم قادرون على حمل الفأس أو حراسة الثمار، ويحصلون في مقابل ذلك على راتب لا يتعدى سبعة جنيهات في اليوم الواحد (39 سنتا)، ومنهم من يمكنه العمل في المصانع القريبة، شريطة الحصول على شهادة صحية تثبت صلاحيته للعمل. ويرسل بعض المرضى مبالغ مالية بسيطة تحصلوا عليها إلى ذويهم الذين يعتقدون أنهم غادروا بلدانهم للحصول على فرصة عمل، وليس هربا من المرض، لكنهم لا يصرحون بمعلومات عن أماكنهم، ويهربون من سؤال متكرر ودائم حول العودة، تؤلمهم الذكريات ويتجنبون التطرق إليها، ويكتفون بالحياة في غرفة واحدة بدون أي أثاث سوى موقد غاز صغير وبعض الأغطية. عبدالعزيز صادق رحل من محافظة الشرقية (شمال القاهرة) قبل 52 عاما حين تم تشخيص مرضه، ويعرف أخبار ابنته المتزوجة وأحوال أولادها، ويرسل إليهم أموالا من معاشه، وعكس الكثيرين من جيله تمكن من الانضمام إلى مراكز التأهيل المهني والالتحاق بوظيفة حرفية حتى بلوغه سن التقاعد. يقول صادق لـ”العرب” إن الله أكرمه بأداء فريضة الحج ما أعطى لحياته معنى آخر، ولفت إلى أنه اعتاد التعايش مع الوحدة في منزله المكون من غرفة واحدة خلفها فناء خارجي يقضي فيه معظم حياته التي لم يتغير نمطها منذ بلوغه سن التقاعد، وهو يفضل ذلك على التوجه إلى المستعمرة أو المكوث في منزله أو زيارة أحد جيرانه لبضع دقائق. بلا خدمات في عزبة الصفيح لا توجد عيادة طبية أو صيدلية أو وسيلة نقل عمومي أو مركز شبابيّ أو مجرد مقهى شعبي، وعليهم قطع قرابة السبعة كيلومترات إلى مدينة الخانكة من أجل الحصول على علبة دواء أو تلقي خدمة طبية، ولا تأتي لهم القوافل الصحية الرسمية إلا مرات قليلة في السنة. الخدمات التعليمية دخلت إلى “الصفيح” على مضض، وظلت حتى قبل خمس سنوات محرومة من المدارس إلى أن تم افتتاح مدرستين للتعليم الأساسي، ثم دار حضانة بتبرعات من الأهالي ومعاونة جمعيات خيرية، لكن العزبة إلى الآن محرومة من خدمات الصرف الصحي ووسائل النقل العمومي وتفتقد كذلك إلى مدرسة للتعليم الثانوي. ويشير أحمد أبوزيد -حاصل على مؤهل متوسط ويعمل سائقا بالخانكة- إلى أن أهالي العزبة يعانون من النظرة المجتمعية السيئة لهم، ويعاملهم البعض حتى الأصحاء منهم باشمئزاز بمجرد معرفة محل ميلادهم، ولطالما دخل أهالي العزبة في شجار مع أهالي قرى مجاورة بسبب السخرية منهم أو من مرض أقرباء لهم. وأوضح لـ”العرب” أن العزبة لا تربطها بالمدينة وسيلة نقل عمومي أو سيارة أجرة جماعية، ويعتمد الأهالي على وسائل النقل الخاصة كمركبات التوك التوك، مضيفا “بعض السائقين يرفضون التحرك ويطالبون الركاب بالنزول بمجرد معرفة أنهم من سكان العزبة، كما لو كانت مكانا موبوءا، مما يضاعف إحساسهم بالألم والقهر، والبعض منهم يرفضون أيضا الاقتراب من مستعمرة الجذام”. حياة المقيمين بالعزبة ترتبط في المقام الأول بمستعمرة الجذام، تلك المصحة العلاجية التي تم تأسيسها عام 1933 بأمر ملكي في منطقة نائية يحيط بها حزام وقائي من الأراضي الصحراوية لعزل جميع المجذومين إجباريًا، قبل أن يمتد إليها العمران لتُبنى عزبة الصفيح على مقربة منها في بدابة الثمانينات من القرن الماضي.منبوذات من المجتمع وتوفر المستعمرة العلاج النوعي الخاص بمرض الجذام مجانًا، كما توفر للمرضى وجبات يومية تعتمد على البروتين، ويقول محمد ترك (37 عامًا) إنه جاء من محافظة سوهاج في جنوب مصر للعلاج في المستعمرة، لكنه لا يستطيع العودة بسبب بعد المسافة فقرر الإقامة هنا، ونجح في الحصول على فرصة عمل في أحد مصانع البلاستيك، ويرسل راتبًا شهريًا إلى زوجته وأولاده الذين لم يرهم منذ إصابته. وحملت المستعمرة اسمها من نمط بنائها الشبيه بالمستعمرات البريطانية، فعنابر المرضى كانت ‏أشبه بالثكنات القديمة ذات الأسطح المقوسة، وكان أي مريض يكتشف إصابته بالجذام ينقل إليها بالقوة ‏على يد الأمن، وتضم حاليًا سبعة عنابر للرجال وثمانية للسيدات بإجمالي 355 سريرًا. أصحاء بالقرية يحاول قاطنو عزبة الصفيح الدفاع عن أنفسهم بالتأكيد على أن المرض غير معد، مستشهدين بأسماء المرضى القدامى الذين تزوجوا من بعضهم البعض ولم تنتقل العدوى إلى أبنائهم، بل يدللون بنماذج على أن بعض الأصحاء تزوجوا من مرضى، ولم ينتقل المرض إليهم أو إلى ذويهم. وقال أحمد نصار (59 عاما) -غير مصاب بالمرض- إنه يقطن القرية منذ 30 عاما، لامتلاكه قطعة أرض قريبة منها، وفي بعض الأحيان كان ينام داخل مستعمرة الجذام وسط المرضى، ولم يتعرض لسوء أو عدوى وتربطه علاقة وثيقة بأحد جيرانه من المرضى. ويشير تاريخ العزبة إلى أنها تكونت في بداية تأسيسها من 450 متعافيا قبل أن يفد إليها أصحاء لم يبالوا بالمرض مع عائلاتهم وأقاموا فيها، لتتزايد أعدادهم على مدار 50 عاما إلى عدة آلاف، ولتلتصق المنازل ببعضها البعض، لكن المرضى ظلوا في عزلة نفسية، رغم اختفاء الصمت من الشوارع وامتلائها بضجيج الأطفال الصغار. في مستعمرة الجذام الأطباء أنفسهم يؤكدون أن النظرة السلبية للمرضى تؤلمهم وبالتالي يفضلون الانزواء، رغم أن خمسة بالمئة فقط من الأفراد معرضون للإصابة بالمرض ويحمل الجسم مناعة طبيعية تجاه البكتيريا المسببة له كما لم يثبت انتقاله بالاتصال الجنسي، وطالما تلقى المريض العلاج لن ينقل العدوى إلى غيره. وفقا للإحصائيات الطبية الرسمية، فإن معدل انتشار مرض الجذام بمصر خلال 2016 بلغ واحدا لكل 100 ألف شخص، بينما بلغ معدل الشفاء من المرض -الذي ينتج أساسا من عدوى مزمنة تنجم عن البكتيريا الفُطْرية الجذامية التي تحدث أوراماً حبيبية بالجهازين العصبي والتنفسي والجلد والعينين وتنتقل عبر الرذاذ- أكثر من 92 بالمئة. ويبلغ العدد التراكمي لحالات الجذام بمصر منذ بدء التسجيل عام 1979 حتى نهاية عام 2013 نحو 37 ألف شخص، ولا يعتبر المريض الذي أنهى مدة علاجه كاملة في حالة جذام، حتى وإن استمرت المضاعفات الظاهرة على ملامح جسده. تصوير: محمد حسنين

مشاركة :