مع عصر النهضة العربية تعرف العرب إلى ليبرالية الغرب التي حملت إلى الفكر العربي معاني ودلالات جديدة لمفهوم الحرية غير تلك التراثية، فتلازم مفهومها مع مفاهيم العدالة والمساواة والتقدم والحق، وبرزت ولو على نحو خجول مبادئ وقيم حرية الرأي والاعتقاد والتعبير والتأويل، والاعتراف بمرجعية العقل حتى في المجال الديني، ومراقبة السلطة السياسية وإخضاعها للمساءلة والمحاسبة، والتوجه من دون قيود إلى دراسة الطبيعة وقوانينها دراسة علمية بعيدة من السحر والخرافة، فضلاً عن إعادة النظر في معاملة المرأة واحترام كرامتها الإنسانية والاعتراف بدورها الأساسي في المجتمع. عليه، حاول النهضويون العرب تأصيل هذه المبادئ والقيم في الفكر العربي انطلاقاً من أن الإسلام في صميمه دعوة إلى الحرية، ومن أن «الشريعة لا تحرّم على المسلمين اقتباس ما ينفعهم في دنياهم من الأمم الراقية» على حد تعبير محمد الوزاني، الذي ذهب إلى أن الحرية ضرورية لحياة الأمة، وأنها الوسيلة الفعالة لتحقيق النهضة الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي كان نبّه إليه الرائد النهضوي عبد الرحمن الكواكبي، إذ ألغى صلة وثيقة وجدلية بين الحرية والنهضة، حيث يعيش الإنسان في ظل الحرية نشيطاً فرحاً فخوراً، فيما يعيش أسير الاستبداد خاملاً خامداً كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب. وإذ يستمر سجال الحرية والنهضة في فكرنا العربي المعاصر، يؤكد أحمد لطفي السيد أن الإصلاح الاجتماعي لا يتحقق إلا بالحرية، فيما يرى طه حسين أن الحرية الفكرية أساس الإحياء الاجتماعي. على الضد من هذه الرؤية الليبرالية التي استأنفها ناصيف نصار في «باب الحرية» (2003)، اعتبر برهان غليون أن الديموقراطية ليست شرطاً للنهضة، وأن الأولوية في واقعنا العربي هي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. إلى جانب إشكالية الحرية والتنمية طرحت في فكرنا العرب في مرحلة متقدمة، إشكالية الحرية والمجتمع، حيث الحرية من هذا المنظور تعبير عن إرادة عامة تتشكّل من خلال عقد اجتماعي بين أفراد المجتمع. في هذا الإطار رأى فرانسيس المراش أن الخضوع لدولة التمدن والصلاح هو الحرية بعينها، لأن قوانين هذه الدولة وأحكامها تشكّلت بموجب عقد اجتماعي يعبّر عن الإرادة العامة، ويهدف لخدمة الصالح العام، ولا يعطي امتيازات لبعض الناس دون سواهم. وطرح فكرنا العربي المعاصر علاقة الحرية بالدين، حيث انتهت عملية تأصيل الحرية بالمعنى الليبرالي في تراثنا الثقافي إلى مآزق لا تنفع معها تأويلات مستعادة من فكرنا الإصلاحي، فقول الإصلاحيين إن مبدأ الحرية يقدسه الإسلام تقديساً، ينقضه قول الإسلاميين أن العلمانية عدوان على الدين. وقول الإصلاحيين إن المبادئ الليبرالية هي من صميم الإسلام يراه آخرون «عملية تبجيلية محضة ومغالطة تاريخية حقيقية»، فثمة تمييز ماهوي حدي بين الديموقراطية الليبرالية والشورى الإسلامية، حيث الأولى «شريعة طبيعية» والأخرى «شريعة إلهية» على حد تعبير عبد السلام ياسين. وثمة من أناط الحرية بالعقلانية، بحيث يكون العقل هو المرجعية التي يرجع إليها خلاص الإنسانية وتحررها من القهر والظلم والاستعباد، فيما اندحاره أمام الخرافات والأضاليل والأوهام، عبودية الإنسان وقهره وخراب مدنيته. وإذا كان من مفكرينا من اعتبر الحرية حقاً فطرياً طبيعياً معطى للإنسان، بل لكل كائن حي، فإن من هؤلاء أيضاً من رأى أن الإنسان محكوم منذ لحظة وجوده بما لا يحد من الحتميات المادية والطبيعية والذهنية والاجتماعية، بما يطرح بشكل وبآخر استحالة الحرية الطبيعية للإنسان ولا يبقي أمامه سوى إمكان محدود لحرية أدبية. كما ثمة من أجّل الحرية الإنسانية باعتبار استحالة تحققها في الوقع الإنساني الراهن، فالحرية في الفكر الاشتراكي مستحيلة في ظل الانقسام الطبقي كما هي مستحيلة في الفكر القومي والعلماني، في ظل التجزئة القطرية وانقسام الأمة وتشظيها طوائف ومذاهب وإثنيات، ولا بد إذن من اندحار التكوينات الطبقية والعصبوية وقيام المجتمع الاشتراكي أو المجتمع القومي العلماني كشرط ضروري لحرية الإنسان العربي. أما الإشكال الأساسي، فيكمن برأينا في رهن إشكالية الحرية بما عداها من الاشتراطات والفرضيات الأيديولوجية، الدينية أو الاجتماعية أو السياسية، بينما الواجب تحرير الحرية من كل الاعتبارات، والإيمان بها أفقاً وحيداً للمستقبل الإنساني ومنطلقاً أساسياً لكل القيم والمبادئ والتصورات.
مشاركة :