اختارت حركة النهضة انتهاج سياسة "أمطري حيث شئت فإن خراجك لي" في تعاطيها مع الاحتجاجات التي تشهدها بغالبية مدن تونسية بما فيها تونس العاصمة في مسعى إلى استثمار عائداتها مهما كانت من خلال خطاب متناقض يقع في منزلة بين منزلتين، فيما قال مراقبون إن الحركة الاسلامية وجدت نفسها بين فكي الحكومة والشارع. وفي بيان يتناقض مع تصريحات إعلامية سابقة لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي اتهمت الحركة قوى اليسار بـ"استغلال المطالب الشرعية والتحريض على الفوضى والتخريب والنهب". وقال بيان صدر مساء الثلاثاء إن الحركة "تدين استغلال بعض الأطراف اليسراوية الفوضوية المطالب الشرعية والتحريض على الفوضى والتخريب والنهب"، مضيفة أنها تساند "المطالب المشروعة في التنمية والتشغيل وفي الحق الكامل للمواطنين في التظاهر السلمي". كما دعا البيان الحكومة إلى مزيد الاستماع إلى مشاغل المواطنين والعمل على الاستجابة لمطالبهم المشروعة" ليعمق لدى اتجاهات الرأي العام حالة التوجس من الحركة. ويعكس البيان نوعية الخطاب السياسي المخاتل الذي ما انفكت تنتهجه النهضة طيلة السنوات السبع الماضية في مسعى إلى استثمار أي تداعيات للاحتجاجات مهما كانت طبيعتها مدفوعة باتجاه كسب أكثر ما يمكن من الربح وأقل ما يمكن من الخسارة. ولئن كان مثل هذا الخطاب ليس بالجديد على التونسيين فإنه يمثل خيارا في غاية الخطورة خاصة وأن البلاد تقف على شفا انتفاضة تتغذى من شعبوية سياسية تعد النهضة أحد أطرافها التي لا تستنكف من مخاتلة التونسيين وحتى الاستخفاف بوعيهم. وخلال الأيام الماضية قال راشد الغنوشي في أعقاب اجتماعه بالرئيس التونسي الباجي قائد السبسي إن الحركة تدعم المظاهرات السلمية وتطالب الحكومة بالإصغاء إلى مطالب المحتجين والتواصل معهم. ويقول مراقبون إن الحركة الإسلامية "تتعاطى مع الأوضاع الاجتماعية كسوق تجارية سياسية تباع فيها المواقف وتشترى بحسب مصالح ضيقة لكنها مدروسة". وأضافوا أن "إتهام اليسار بتأجيج الاحتجاجات والتحريض على الفوضى والتخريب والنهب خطاب يهدف إلى الترويج لصورة الحركة على أنها حركة مسالمة ترفض التهريج السياسي". وتحاول النهضة إقناع اتجاهات الرأي العام بأنها تتفهم الاحتجاجات وتساندها متناسية أنها طرف في الحكومة التي أقرت الزيادات في الأسعار وبالتالي فهي تتحمل إلى جانب بقية الأحزاب المشاركة في الحكم مسؤولية تداعيات اجراءات التقشف الحكومية. ويبدو أن الحركة وجدت في إتهام اليسار المعارض مدخلا لإقناع المحتجين بأنها الأقرب إليهم والأكثر إصغاء لمطالبهم من جهة وفرصة التقطتها لتشويه صورة المعارضة اليسارية وتقديمها على أنها حولت وجهة الاحتجاجات السلمية إلى أعمال تخريب ونهب وتحريض على العنف. وقال فتحي المزابي المختص في جماعات الإسلام السياسي إن "رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ينتهج مع اليسار سياسة "حلال علينا حرام عليكم" بشأن المواقف من المظاهرات، مضيفا "كيف يمكن التوفيق بين المساندة من جهة وتحميل الحكومة مسؤولية الاحتجاجات من جهة أخرى". وقال المزابي لمراسل ميدل ايست أونلاين "كان أحرى بالغنوشي أن يخرج إلى الشارع ويواجه المحتجين بخطاب سياسي يقدم المصلحة الوطنية على الحسابات الحزبية الضيقة ويضع في الاعتبار ما تمر به البلاد من وضع صعب بدل أن ينتهج خطابا ملتبسا إلى حد التناقض". ويرى مراقبون أن موقف النهضة المتأرجح بين تفهم الاحتجاجات الاجتماعية ودعم الاجراءات الحكومية، يأتي ضمن حسابات انتخابية ووسط مخاوف من تأثير الاحتقان الاجتماعي على حظوظها في الفوز في الانتخابات البلدية المقررة في مايو/ايار. وقال محسن بلحاج علي الناشط في الجبهة الشعبية اليسارية المعارضة "إن الغنوشي يحاول تحويل أنظار اتجاهات الرأي العام إلى اليسار وتقديمه في صورة مشابهة لعصابات الإجرام، إنها منتهى الوقاحة على حد تعبير نائبنا في البرلمان منجي الرحوي". واضاف "كان على الشيخ أن يحاسب نفسه ويحاسب حركته ماذا قدمت للتونسيين طيلة مشاركتها في الحكم"، لافتا إلى أن وصف اليسار بالفوضوي واتهامه بالتحريض على العنف ينم عن عقلية استئصالية تتناقض تمام التناقض مع العملية السياسية الديمقراطية رغم معارضتنا لمسارها". وشدد محسن بلحاج علي على أن "الغنوشي يحاول تنصيب نفسه وصيا على مشاغل الناس وعلى مصالح الدولة في الآن ذاته كما لو أنه أميرا أو خليفة للمؤمنين" مضيفا أن "اليسار الذي تأسس في العام 1920 أي قبل تأسيس النهضة بـ 60 سنة يمتلك من التجربة والوعي الوطني ما ينأى به عن العنف أو الفوضى وهو ليس مستعد لتلقي الدروس في الوطنية وفي الديمقراطية وفي ممارسة الحق في التظاهر السلمي من الغنوشي". ويرجح سياسيون أن الخطاب المتناقض الذي تنتهجه النهضة لا يعكس سوى وهن الحركة وهشاشتها وتوجسها من أن تتكتل القوى الديمقراطية ضدها في ظل استماتتها على أن تضمن في كل تركيبة حكومية مقعدا أو مقعدين زاعمة أنها تمثل عنصر توازن واستقرار والحال أنها كثيرا ما غذت الأزمات التي شهدتها تونس. وخلال هذه الأيام تدافعت قيادات النهضة على وسائل الإعلام مكررة مفردات الخطاب السياسي المتناقض في محاولة لإقناع التونسيين بأن الانتصار للشارع لا يعني معارضة إصلاحات الحكومة وأنها تمثل عنصر توازن حكومي وسياسي واجتماعي. غير أن اليسار التونسي يرى أن النهضة تمثل خطرا على المسار الانتقالي الديمقراطي محذرا حليفها نداء تونس من مغبة تداعيات إشراكها في الحكم ومفاضلتها على القوى الديمقراطية المدنية التي تهمشت جراء التحالف.
مشاركة :