في الواقع ليس على الأتراك أن يخدعوا أنفسهم، إذ أن هناك الكثير من العوائق الموضوعية التي تجعل حلم الانضمام بعيد المنال، على أقله في المدى المتوسط.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2018/01/10، العدد: 10865، ص(7)] تخلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في زيارته الأخيرة إلى باريس عن تحيته المألوفة والمثيرة للجدل، وهي التلويح بالأصابع الأربعة، كما بدا أكثر التزاما بالبروتوكول عند لقائه الرئيس إيمانويل ماكرون. وسواء تعلق الأمر بإيحاءات مبطنة عن أحداث ميدان رابعة في مصر، أم بشعار حزب العدالة والتنمية المؤسس على مبادئ أربعة، فإنه كان من الواضح أن الرئيس التركي كان حريصا على تفادي هذا اللبس والخلط (المتعمد ربما) في قلب أوروبا، وهو الذي كان حريصا على التلويح به بمناسبة أو غيرها في زياراته بالشرق الأوسط وأفريقيا. لكن هذا الالتزام بالمراسم الرسمية في الإليزيه ربما لن يكون كافيا لإحياء مفاوضات الانضمام المعلقة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي في وقت تزداد فيه تركيا ابتعادا عن المعايير الأوروبية. هذا الفتور الذي يعتري مفاوضات الانضمام كان أكثر وضوحا في محادثات أردوغان مع نظيره الفرنسي، إذ غطت ملفات الحقوق والحريات والصحافة بتركيا وتبعات الانقلاب العسكري الفاشل والمسائل الاقتصادية الثنائية على عناوين الزيارة، فضلا عن صعود اليمين المتطرف في أوروبا والإسلاموفوبيا، بينما تم التطرق إلى ملف المفاوضات على استحياء بين الجانبين. تركيا التي بدأت محادثات انضمامها إلى أوروبا منذ عقود طويلة بدءا من اتفاقية أنقرة عام 1963، والتي مهدت لبدء محادثات العضوية التدريجية لتركيا إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي ومن ثم مفاوضات الانضمام رسميا إلى الاتحاد بدءا من 2005، تبدو اليوم بعيدة عن أوروبا أكثر من أي وقت مضى إلى درجة دفعت الرئيس التركي إلى الاعتراف “بحالة الإرهاق” من وراء اللهث خلف هذا المسعى، وهي حالة تعكسها أيضا الحماسة الفاترة لدى الرأي العام التركي بشأن أوروبا اليوم على عكس تطلعاته قبل سنوات قليلة. ويترافق هذا الفتور مع صعود لافت للقومية التركية، غذتها أزمات دبلوماسية متلاحقة، أخطرها حادث الطائرة في سوريا مع روسيا والذي كاد أن يدفع بالبلدين إلى حافة الحرب، ومع جيرانها الأوروبيين من بينهم ألمانيا والنمسا وهولندا. وفي كل الأحوال هناك إدراك لدى أنقرة بأن إعادة إحياء المشروع الأوروبي في ظل الظرفية المتوترة حاليا، يحتاج إلى تعاط أكثر مرونة وانفتاح على باريس وبشكل خاص برلين، المحرك الأساسي للاتحاد الأوروبي، رغم البرود الذي ساد العلاقات مع العاصمتين منذ الأحداث التي أعقبت محاولة الانقلاب العسكري. ويمكن تفهم سياسة غض الطرف التي اتخذتها تركيا حيال قانون إنكار إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين الذي صادقت عليه الجمعية الفرنسية منذ 2011 وظل مصدر توتر بين البلدين منذ ذلك الحين، لجهة أن الموقف الذي اتخذته باريس حيال إجراءات الحكومة التركية بعد حادثة الانقلاب، كان الأكثر اعتدالا مقارنة بباقي العواصم الأوروبية وفي مقدمتها برلين، الحليف التاريخي القديم. لكن مع ذلك فإن مراهنة أردوغان على ثقل قصر الإليزيه، في مسعاه لإعادة الدفء مع الجيران الأوروبيين، قد لا يبدو خيارا كافيا وحاسما لوحده وبمعزل عن دور ألمانيا. فلقد لوّحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بشكل علني وحازم في إحدى مناظراتها التلفزيونية خلال السباق الانتخابي إلى منصب المستشارية، بأن تركيا لن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي. ويلخص ذلك حدة الخلافات التي طفت على السطح بين البلدين في عدة ملفات، آخرها اعتقال صحافي ألماني تركي بتهمة الدعاية للإرهاب والدعوة إلى الفتنة، وهي تهمة تعتبرها برلين ملفقة كموجة التهم الموجهة للمعارضة وأنصار عبدالله غولن والمعتقلين بعد الانقلاب العسكري الفاشل. والواضح كذلك أن ألمانيا بدأت تلاعب تركيا على المكشوف. فبعد اصطفافها خلف فرنسا وإصدارها لقانون يجرم إنكار إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين الأتراك، هاهي تتجه الآن إلى إلغاء العقوبات المرتبطة بإهانة الرؤساء، وهي لطمة موجهة لأردوغان بالذات بعد تواتر شكاوى أنقرة من رواج الأغاني الساخرة ضد الرئيس التركي في ألمانيا. ولا يقف الأمر عند ذلك الحد، إذ يصطف خلف ألمانيا نواب البرلمان الأوروبي بمواقفهم المنتقدة لتركيا بشأن تدهور سيادة القانون وحقوق الإنسان وحرية الإعلام ومكافحة الفساد، وبشكل خاص تلويح أردوغان بإعادة عقوبة الإعدام بحق المورطين في الانقلاب، بما يتضارب كليا مع معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي الواقع ليس على الأتراك أن يخدعوا أنفسهم، إذ أن هناك الكثير من العوائق الموضوعية التي تجعل حلم الانضمام بعيد المنال، على أقله في المدى المتوسط، رغم الوعود الأوروبية المتأرجحة بين الانفتاح والتملص، بدءا من الثقل البشري والاختلافات الثقافية والنزعة الدينية المتصاعدة للمجتمع التركي تحت حكم أردوغان. كما تبدو الخلافات المتراكمة مع برلين في الوقت الحاضر حجر عثرة رئيسية في طريق إحياء المشروع الأوروبي، دون نسيان ثقل فيينا المتخمة برواسب التاريخ والحصار العثماني، وهي الأخرى لا تقل أهمية وخطورة على محاولات أنقرة العودة إلى طاولة المفاوضات والحصول على دفعة سياسية لملفها. وتركيا بلا شك واعية بكل تلك العراقيل، ومع أن أردوغان كان أعلن قبل زيارته إلى باريس أن الهدف من توجهه إلى فرنسا هو العمل على ترجيح كفة الأصدقاء على حساب الأعداء داخل الاتحاد، فإن هذه المهمة تحتاج إلى أكثر من مجرد إعلان نوايا، بل تحتاج نشاطا دبلوماسيا لتعزيز الثقة أولا وأفعالا مطمئنة للجيران، وإلا فإن جهود الرئيس في إحياء المطامح الأوروبية لن تتعدى النفخ في الرماد. كاتب تونسيطارق القيزاني
مشاركة :