طوال عقودٍ سبقت قرار رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتوجيهه وزارة الخارجية للعمل على نقل مبنى السفارة من تل أبيب إليها، انتهجت إسرائيل سياسات هادفة إلى تهويد المدينة العربية وإحداث وقائع جديدة على الأرض، تغيّر تركيبها السكاني، وتطمس هويتها العربية من خلال تغيير أسماء أهم معالم المدينة والبلدات العربية إلى اللغة العبرية.أمَّا التوسع الاستيطاني في القدس، فما فتئ يزداد ضراوة بهدف تطويق المدينة وعزل سكانها وإجبارهم على ترك مدينتهم، ومن أدواته ما يسمى قانون «أملاك الغائبين» الذي يمكّن السلطات الإسرائيلية بشكل ممنهج من وضع اليد على أملاك الفلسطينيين، واتخاذ أوهى الذرائع لطرد العرب من مساكنهم وإحلال المستوطنين محلهم، فضلاً عن هدم الأحياء العربية من المدينة كحي المغاربة. وصاحَب ذلك كله بناء الجدار العازل الذي يتعدى على حدود الضفة الغربية كما يحددها الخط الأخضر، ويقتطع مساحات واسعة منها، مُصادِراً بذلك أراضي الفلسطينيين ومنازلهم، ومؤدياً إلى مزيد من التشظي في الأراضي التي يُفترض أن تخضع للسلطة الفلسطينية. ناهيك عن ضمِّه المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية التي يعتبرها القانون الدولي غير قانونية، مثبِّتاً بذلك وجودها في استباقٍ لأي تسوية تفاوضية.ورُبَّ متسائلٍ عن تلك المقدمة وما عسى أن تكون لكاتب هذه السطور من صلة بموضوعها، عدا عن كونه مواطناً عربياً شرَّفته حكومته بإدارة صندوق «أوبك» للتنمية الدولية (أوفيد) الذي أنشأ حساباً للمنح مخصصاً حصراً لدعم الشعب الفلسطيني، غرضه تمكين الفلسطينيين على أرضهم وتحسين سبل معيشتهم، ومقارعة إجراءات الاحتلال وما فيها من عسف وعدوان ينوء من وطأتهما الفلسطينيون.وتجدر الإشارة إلى التمويل غير المشروط الذي يقدمه «أوفيد»، وهو مبدأ ينتهجه في عملياته جميعاً على اختلاف البلدان الشريكة والنوافذ التمويلية، في حين تتعرض وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إلى المساومة على تمويل مهماتها الإنسانية، على رغم أنها لا تضطلع بأي دور سياسي وليست طرفاً في المفاوضات، إذا استثنينا ملف اللاجئين، وهو واحد من قضايا الحل النهائي الشائكة التي قد يكون الضغط على «أونروا» مدخلاً لتصفيتها.ولعل من اللازم أن أشير في هذا الموضع إلى أن «أونروا» تلقت نحو ربع مساعدات المنح التي قدَّمها «أوفيد» لدعم الشعب الفلسطيني طوال العقود الأربعة الماضية. ويشمل ذلك تقديم الدعم للمستشفيات والمدارس، وتحسين البنية التحتية في القدس، وبالتالي الإبقاء على الوجود العربي فيها. بيد أنني سأعرض هنا إلى جانب آخر من عمليات «أوفيد» في فلسطين، قد لا يكون معروفاً للكثيرين.من ذلك الدعم الذي يقدمه «أوفيد» لسجل الأمم المتحدة لأضرار الجدار العازل، وهو هيئة موكلة بتوثيق الأضرار التي تكبدها الفلسطينيون في منازلهم ومزارعهم وسبل معيشتهم من جراء بناء الجدار العازل على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية والمناطق المحيطة بها. والصندوق هو ثالث أكبر مانح لهذا السجل، وقد موَّل الآلاف من عمليات توثيق الأضرار التي ينهض بها فريق متخصص يعمل على تقديم المساعدة إلى المتضررين في إتمام أوراق شكاواهم، وإلحاق أي أوراق ثبوتية بها، ثم تبويبها في قاعدة بيانات. ومن الجدير بالذكر أن السجل ينقل جميع الملفات وملحقاتها إلى مخزنٍ مؤمّنٍ في مقر الأمم المتحدة بفيينا، ويحتفظ بها لاستخدامها في المستقبل عند فتح ملف التعويضات ورد الحقوق لأهلها.أما فيما يخص تهويد القدس ومحاولات تهجير سكانها من العرب، فإن واحداً من أهم التدخلات هو مشروع ترميم مساكن المقدسيين في البلدة القديمة، مسلمين ومسيحيين، لتجنيبهم الطرد ومصادرة منازلهم؛ إذ كثيراً ما تتخذ سلطات الاحتلال من الحالة المتردية لكثير من تلك المساكن ذريعة لهدمها بدعوى كونها خطراً على السلامة العامة. وقد ساهم «أوفيد» حتى تاريخه في ترميم مائة منزل في القدس، من خلال مشروع متعدد المراحل ينفذه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بواسطة برنامجه المخصص لمساعدة الشعب الفلسطيني.هذا على الصعيدين القانوني والعملي. أما فيما يتعلق بالثقافة والهوية، فقد موّل «أوفيد» مشروعاً طموحاً ينفذه «مركز المخطوطات ودراسات بلاد الشام» في الجامعة الأردنية، لفهرسة جميع وثائق القدس ونشرها إلكترونياً وإتاحتها للعامة. ويتضمن ذلك سجلات المحاكم الشرعية، وسجلات النفوس، وسجلات ملكية الأراضي، وأسماء الشوارع. ولا يخفى ما لهذا من أهمية كبرى في تقويض الدعاوى التي تنكر الوجود الفلسطيني السابق على الاحتلال، وتثبيت حقوق الفلسطينيين في قراهم ومدنهم، طال الزمان أم قصر.وعلى الصعيد الثقافي أيضاً، يدعم «أوفيد» بشكل متواصل «معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى»، ومقرُّه الرئيسي مدينة القدس. ولتعزيز الحس بالهوية الوطنية والقومية لدى الأطفال الفلسطينيين دور كبير في مقاومة محاولات التهويد والعبرنة، ومساعي دولة الاحتلال إلى فصل الفلسطينيين، ولا سيما حديثو السن منهم عن ثقافتهم ومحيطهم العربيين. والموسيقى إحدى أدوات هذه المقاومة على الصعيد الثقافي، ولا ينبغي أن تُعد فعلاً نخبوياً، ومثلها سائر الفنون وأساليب التعبير. ومن هنا، فقد حرص «أوفيد» على دعم برامج المعهد، وبخاصة تمويل برامج لتدريس الموسيقى للأطفال من مخيمات اللاجئين والمناطق المهمشة، فضلاً عن تمويل ما يحتاج إليه المعهد من آلات موسيقية، ومراجع، ومواد سمعية، ومعدات صوت وتسجيل.وخلاصة القول، إن الحفاظ على عروبة القدس ومقاومة كل محاولات طمس هويتها إنما يكون من خلال الأعمال لا الأقوال.* مدير عام صندوق «أوبك» للتنمية الدولية (أوفيد)
مشاركة :