إعادة تهذيب العين والأذن بالفنون الراقية، مهمة ممتعة وشاقة في الوقت ذاته، لا ينتهي زمنها. وهي الحصانة الحقيقية أمام الظواهر. إنها أيضا رقصة فالس ثانية يجب أن تحدث.العرب إبراهيم الجبين [نُشر في 2018/01/12، العدد: 10867، ص(24)] قبل ساعات قليلة عدتُ من حفل موسيقي لأعظم مايسترو لا يزال على قيد الحياة في عصرنا هذا. عرف هذا الرجل الأنيق أن الفن الراقي لا يمكن له أن يبقى حبيساً في الأكاديميات والقاعات والبزات الرسمية، فقرر نشره في أنحاء العالم، مستثمراً معرفته الرفيعة بلغة العالم ذاته، وتربيته الرصينة على موسيقى يوهان شتراوس وباغانيني وبيتهوفن وكبار المبدعين. كانت شخصية والده، كلما رآه في الأوركسترا، تسحره، لذلك تعلّم العزف على الكمان في سنّ الخامسة، وحين كبر، درس في المعهد الموسيقي الملكي في لييج وبكونسرفاتوار ماستريخت. قبل أن يعزف “الدانوب الأزرق” قال ليلة الأمس إنه أسس الأوركسترا الخاصة به قبل ثلاثين عاماً بالضبط، وكان فخوراً بأنها ضمت 13 جنسية من أصقاع الأرض. روحه الساحرة كانت تنتشر في المسرح وبين أعضاء فرقته وفي ثنايا الجمهور الكبير الذي كان بالآلاف في قاعة أرينا في أوبرهاوزن الألمانية. إنه أندريه ريو الذي فهم السر. والذي قال أمام الجمهور محاورا نفسه “ما هو سرّك يا أندريه؟” فأجاب “سرّي أنني أعمل من القلب”. ربما مرّ زمن طويل لم تندفع فيه قطرات الدمع من العين بلا مشاعر، بلا حزن أو فرح، كما حصل في حضرة موسيقى أندريه ريو. حيث لا تحركك العواطف، بل شحنة قوية من الموسيقى الراقية التي تلامس الأعماق. ريو تربع على عرش الترتيب الموسيقي العالمي في ثلاثين مناسبة دولية، وحصل 355 مرة على جائزة “الألبوم البلاتيني”، وبلغت مبيعات موسيقاه 35 مليون أسطوانة. والأكثر مبيعاً على مستوى العالم، بعد أسطوانته “رقصة الفالس الثانية”. ووصفته النيويورك تايمز الأميركية بأنه “مادونا الموسيقى الكلاسيكية”. ولعل السنوات الماضيات بما فيها من كوارث حلّت بمجتمعاتنا، فمزقتها ودمرتها وأرهبتها، جديرة بأن تعلّمنا أن إبقاء العين والأذن في حالة تلق للمصائب والأخبار السيئة والنحيب طيلة الوقت هو أسوأ ما يمكن أن يفعله الإنسان بنفسه. فمن قال إننا محصنون ضد العنف، ونحن نستقبله كتربية ثانية وجديدة كل يوم في نشرات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي؟ إعادة تهذيب العين والأذن بالفنون الراقية، مهمة ممتعة وشاقة في الوقت ذاته، لا ينتهي زمنها. وهي الحصانة الحقيقية أمام الظواهر. إنها أيضاً “رقصة فالس ثانية” يجب أن تحدث. مع ريو فريق من الموهوبين، عازفون وعازفات ومغنيات سوبرانو خارقات تصبح معهن حواجز مثل اللغة والموضوعات أموراً ثانوية. لكن أهم أبطاله كما قال هو “الجمهور”، الذي يتذوق كل هذه الموسيقى العذبة. لتبقى النخبة الحقيقية هي التي تخاطب القلب، مثل أندريه ريو، سواء قرأت وكتبت وعزفت ورسمت أم لم تفعل. إبراهيم الجبين
مشاركة :