لا يمكن لأنظمة حكم قائمة على الظلم والقمع والاستبداد أوالعصبيات الطائفية والمذهبية والعشائرية والعسكرية أن تبني دولاً مهما حاولت ، فلا مكان لنظام الحكم الديني أو العسكري في الفكر السياسي الحديث ، وما نراه في كثير من الدول التي اندلعت فيها الثورات إنما هي نماذج لعصابات لا لدول ، ومهما امتلكت تلك العصابات من قوة، فلا بد أن تنهار في يوم من الأيام ، لكن الكارثة الكبرى أن العصابة لا تنهار بمفردها ، بل ينهار معها الكيان المسخ الذي صنعته، وحكمته بعقلية العصابة ، تأملوا الأوضاع في سورية وليبيا واليمن والصومال والسودان والعراق وتونس لتدركوا بأنفسكم بأن حكم العصابات ما هو إلا تركيبة كارثية لتدمير الأوطان ونهب ثرواتها وتشريد شعوبها .تحصُدُ كثيرٌ من بلداننا اليوم ما زرعته أنظمة القمع والاستبداد والظلم ، ولا يمكن لبلداننا المنكوبة أن تنهض ثانية إلا بأنظمة حكم ديمقراطية حديثة تراعي الحريات وحقوق الإنسان ، وبعقلية الدولة المدنية ، ويجب ألا ننسى أن أهم نظامٍ إنساني على مدى القرون الماضية هو (الدولة) فهو أفضل نموذج لإدارة الأفراد والمجتمعات ، ولا سيما المتباينين دينياً وطائفياً وعرقياً ومذهبياً وعنصرياً وقبلياً ، البعض يرى أن الحل في سورية والعراق وليبيا واليمن والصومال وغيرها يكمن في تقسيم البلاد ، أو الفصل بين مكوناتها الطائفية والمذهبية والقومية والعرقية وهذا ليس حلاً، بل إغراق في الانقسام والتشرذم والتقوقع ، وربما يخدم استراتيجية من أراد الحكم بعقلية الأقليات والعصابات فالكيانات الحديثة ليست كيانات متناثرة ضيقة بل تكتلات ضخمة ، لاحظوا الدول الغربية الكبيرة انضوت تحت لواء الاتحاد الأوروبي، مع العلم أنها تمتلك كل مقومات الدول الحقيقية ومع ذلك آثرت التكتل تحت لواء تجمعات أضخم وأكبر ، الحل في كل البلدان المنكوبة بالصراعات الداخلية لا يكمن في استئصال طرف لآخر أو إلغائه وتهميشه بل في تحقيق المواطنة الحقيقية، بحيث يصبح الجميع مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وليس طائفيين أو مذهبيين أو عشائريين أو قبليين أو عنصريين متناحرين ، فإذا ما تحققت المواطنة الحقيقية فلن يتمترس أحدٌ وراء طائفته أو مذهبه أو عرقه ، بل تذوب الفروق المذهبية والعشائرية والقبلية والطائفية والمناطقية في مبدأ المواطنة. وهذه عملية قد تبدو صعبة وغير سريعة، لكن إذا تحققت الإرادة العزم لدى النخب الحاكمة فستتحقق المواطنة بسرعة ، وما أضيق العيش لولا فسحةُ الأمل .الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً عبارة عن أمة مساهمة تآلفت من مزيج غريب عجيب من الملل والنحل والطوائف والأعراق والقوميات المختلفة، لكن لا أحد فيها يتمترس وراء عرقه أو طائفته في أمريكا ، لأن انتماءه الضيق ذاب في المواطنة. فالجميع ينظر إلى نفسه في أمريكا والغرب المتطور كمواطن، وليس كمسيحي بروتستانتي أو كاثوليكي أو انجليكاني أو ماروني أو كمسلم أو يهودي أو بوذي أو شيعي أو سني أو درزي ، لماذا ؟ لأنه ينال حقوقه كباقي مكونات المجتمع.إن أول شيء يجب فعله في بلادنا المنقسمة على نفسها البدء فوراً في تحقيق مبدأ المواطنة ، نعلم أن ذلك ضرب من الأحلام والتمني في الوقت الحالي وقد مرت الأمم المتقدمة بمرحلة التناحر الداخلي قبلنا، وخسرت الملايين من شعوبها جراء التطاحن والاقتتال والحروب الأهلية، لكنها عادت، وبنت دولة المواطنة لتصبح في المقدمة سياسياً وصناعياً وثقافياً واجتماعياً ، وعندما يصبح لدينا حكام وطنيون يحققون العدالة والحرية وحقوق الإنسان ويفكرون بالوطن، لا بالطائفة أو العصابة أو الجهاز الأمني ، عندئذ ستختفي صراعاتنا وثوراتنا. لاحظوا أن البلدان التي بنت دولة المواطنة لم تشهد ثورات ولا صراعات داخلية منذ زمن بعيد. وقد زاد تماسكها الداخلي بعد الحرب العالمية الثانية .كل الإنجازات الكبيرة والمكاسب العظيمة بدأت حلماً صغيراً وأملاً خافتاً تحقق بالإرادة العظيمة والعزيمة القوية ، فما أضيق العيش لولا فُسحة الأملِ .عبدالله الهدلق
مشاركة :