مع إشراقة كل صباح خميس وجمعة وهي إجازة المدارس فيما مضى ينطلق عبدالرحمن بهمة ونشاط نحو السيارات المتوقفة على جانبي الطريق الرئيسي الذي يمر ببلدته ويكتظ بالمسافرين وهو يحمل بيده مفتاح عدة صغير ومفك مسامير يستعين بهما في إصلاح السيارات المتعطلة أثناء مروره بالسيارات ومشاهدته لمن ينشغل في إصلاحها أو صيانتها حيث يعرض خدماته عليهم فيوفق في أحيان كثيرة في الحصول على فرصة لجني بعض المال جراء تمكنه من إصلاح السيارة بما يملكه من خبرات اكتسبها من عمله في إحدى الورش بأجر ضئيل لمدة تقترب من العام، ويغلب على عمله إصلاح الكهرباء للسيارات حيث يقوم بفحص السيارة لمعرفة مكان الخلل حيث يغلب على عمله شد سير السيارة، أو وزن (البليتين) أو استبدال البطارية حيث يقوم بفكها ومن ثم حملها إلى أقرب ورشة ليعود بمثلها جديدة ومن ثم يركبها فيأخذ قيمتها ليعود به إلى صاحب الورشة فيما يأخذ أجرته والتي هي عبارة عن ريالات قليلة لكنها مع الوقت تزداد فتغنيه عن سؤال والديه لمصروفه اليومي، وقد يساهم بقليل منها في الصرف على المنزل إذا كان والده من محدودي الدخل، ويستمر عمل عبدالرحمن حتى في أيام الدراسة وذلك من بعد صلاة العصر حيث يكون قد أخذ راحة كافية من عناء الدراسة وتحصيل العلم إلى أذان المغرب حيث يعود إلى منزله لاستذكار دروسه والنوم باكراً للقيام إلى المدرسة بنشاط، عبدالرحمن هذا الشاب المكافح ليس من يعمل وحده بل كل شباب البلدة من أقرانه يعملون كل في ما يجيده، فالبعض يساعد والده في البيع بالدكان والبعض الآخر يعمل في المزرعة وآخر يبيع في السوق بعض منتوجات مزروعات والده، فالكل يعمل إلى جنب التحاقه بالمدرسة ولا مكان للعاطل بينهم، ورغم ذلك لم يكونوا بعيدين عن الترفيه أو غائبين عنه فهم يجتمعون للتسامر واللعب بعد من بعد صلاة المغرب إلى وقت صلاة العشاء حيث يتجاذبون أطراف الحديث ويستمتعون بسرد مواقفهم اليومية سواء في العمل أو البيع والشراء والذي يحلمون بأن يكون طرقهم إلى الثراء.. حال عبدالرحمن هذا وأقرانه هو حال شباب الأمس القريب الذين كانوا يعملون بكل جد ومثابرة إلى جانب دراستهم، ولكن حال الشباب اليوم تغير حيث غلب على أكثرهم الركون إلى الكسل والبحث عن الترفيه بمباركة من ذويهم الذين وفروا لهم كل أسباب الراحة وهيؤوا لهم كافة سبلها من أجل التفرغ للتحصيل العلمي، وبات كل منهم يعتمد في مصروفه اليومي على والده الذي يعطيه إياه بلا مشقة أو تعب، وبعد أن ينهي الشاب دراسته ويتخرج فإنه يستمر في تلقي مصروفه اليومي من والديه بينما هو يبحث عن عمل، وقد يستمر به الحال على ذلك أشهر وسنين دون أن يبادر بالبحث عن أي عمل أو صنعة يحقق بها ما يوفر به مصروفاً يومياً، ويظل الأب المسكين يدفع نتاج تربيته وتدليله، وإن كان ظهر في الآونة الأخيرة عدد من الشباب كسر القاعدة وترك الكسل والبطالة وبدأ مشروعاً صغيراً بمساعدة والده مما جعله يوفر مصروفه اليومي وأكثر بل إن الغالبية منهم قد ترك البحث عن الوظيفة وفضل العمل على إكمال مشروعه وتوسعته لما رأى من أرباح وفيرة من مشروعه الصغير الذي صار يكبر بمرور الأيام. كفاح الكثيرون يطلقون على جيل الأمس جيل (الكفاح) وذك لعملهم الدؤوب مع ذويهم من أجل توفير لقمة العيش الكريمة دون خجل أو وجل، فقد كانت ثقافة العيب للعمل اليدوي والميداني شبه معدومة فالكل يعمل ويساهم ويكد ويكدح، بل إنهم يقضون أوقاتهم فيما فيه فائدة لهم ولذويهم وذلك بتحصيل دخل مادي يؤدي إلى تحسين الحالة المعيشية لهم، لذا لم يكن جيل الأمس يعاني من البطالة وذلك لتوفر الوظائف وإن كانت قليلة لا تستوعب كل خريجي المدارس أو كبار السن، مما جعل الكثيرون يتجه إلى سوق العمل الذي كان يشهد رواجاً كبيراً في بداية الطفرة التي شهدتها البلاد منذ ما يزيد على نصف قرن، فقد كانت العمالة الأجنبية قليلة جداً في تلك الفترة وكان من يتولى الأعمال التي تتطلب جهداً بدنياً كالبناء والزراعة والنجارة وغيرها من المهن هم من المواطنين أنفسهم وقد كانت أعمالهم مميزة وإنجازاتهم مشرفة، حيث شيدوا البيوت وزرعوا الأرض وساهموا في تقديم الخدمات بكل قدرة وتفان، كما كان لكثرة الأعمال المتاحة استعانة هؤلاء الآباء بأبنائهم في إنجاز تلك الأعمال، ولم يكن في تلك الفترة شاب لا يعمل فمن لا يعمل لنفسه فهو يعمل مع والده في شتى الأنشطة والمهن ويكون سنداً له في الصرف على احتياجات المنزل. مواقف كثيرة جداً هي تلك المواقف التي شهدت انخراط شباب جيل الأمس في الأعمال المتاحة في تلك الفترة كالبيع في السوق لمنتجات مزارع ذويهم أو العمل لدى ورشة سيارات كعمال يساعدون في تلبية طلبات العاملين المهرة في ميكانيكا السيارات كغسيل القطع بالوقود أو مناولة مفاتيح الفك والتركيب أو توجيههم إلى فك وتركيب القطع وغيرها، كما كان البعض يساعد والده في تأمين طلبات الزبائن في القهاوي والمطاعم، إضافة إلى المشاركة في البيع لمنتوجات المزارع، ومن المواقف التي صاحبت تلك الأعمال ما حدث لأحد الشبان الذي كلفه والده يومياً ببيع منتوجات المزرعة من الخضروات والتمور حيث كان أكثر وقته يقضيه بعد صلاة العصر إلى أذان المغرب بسوق البلدة لبيع التمر خصوصاً في موسم الصيف، وقد كان حريصاً على بيع ما لديه من تمور في أسرع وقت من أجل أن يقضي بقية الوقت في اللعب مع أقرانه قبل أذان المغرب، وكثيراً ما كان يعاني من مفاوضات البيع مع المشترين خصوصاً مع كبار السن تحديداً الذين يبحثون عن السعر المنخفض دائماً، وفي أحد الأيام كان بجانبه رجل مسن باع ما لديه من (سطول) تمر حيث كان التمر يعرض في تلك الفترة بـ(سطل) من النحاس ولم يتبقَ معه سوى (سطل) واحد فما كان منه إلا أن التفت إلى هذا الشاب وطلب منه أن يضع هذا (السطل) مع ما لديه من معروضات ويبيعه له، وحدد له السعر ومشى إلى بيته، فما كان من هذا الشاب إلا أن يرضخ لرغبة هذا المسن الذي لا يمكن أن يرفض له طلب فهو قريب وصديق لأبيه، ولكنه كان يرغب في بيع ما لديه من تمور فخطرت له فكرة بأن يعرض تمر هذا المسن بأضعاف ما حدده له بخمس مرات وذلك رغبة منه في أن يبيع ما لديه من تمور تخصه أولاً، وبالفعل بدأ يبيع ما لديه من تمور تخصه الواحد تلو الآخر ولا يلتفت أحد إلى تمر هذا المسن لغلاء سعره، ولكن حدثت المفاجأة بحيث أن أحد المشترين ذاق تمر هذا المسن فطاب له طعمه وأخذه بالسعر الذي حدده له هذا الشاب وهو خمسة أضعاف ما طلب المسن فأفرغ (السطل) وسلمه النقود ومضى والشاب مدهوشاً من هذا الموقف، ولما جاء المسن من الغد وسأل الشاب عن مصير تمره قال له: إنه باعه بخمسة أضعاف ثمنه وسلمه المال، فسر هذا المسن من تصرفه ببيعه بهذا السعر المضاعف وقال له: بكلمة عامية تعني منتهى الثناء وهي قولة (كفو) بولدي وأعطاه خمس المبلغ مكافأة له على ذلك، ومن المواقف أيضاً أن أحد أصحاب (الدكاكين) أوكل إلى ابنه الصغير البيع وذهب إلى عمل استدعاه إلى أن يغيب مدة ذلك اليوم فجاء إليه أحد المتبضعين من كبار السن والذي يقطن بإحدى القرى البعيدة والذي اعتاد الشراء منه بالجملة فسأل عن والده فأخبره أنه قد ذهب لينجز بعض الأعمال المهمة فقال: إني أريد بعضاً من (عود) البخور ووقع اختياره على أحد الأصناف التي طاب له رائحتها فاشترى منه حقيبة مملوءة تزن قرابة الخمسة كيلو جرامات وأعطاه الثمن الذي طلبه، ومن ثم عاد قافلاً إلى بلدته، وفي آخر النهار عاد الأب إلى (دكانه) فأخبره الولد بما باع من بضائع ومن ضمنها(عود) البخور، وأعطاه ثمن المبيع وهو في غاية السعادة بما حقق من بيع، ولما تفقد الوالد البضائع وجد أن ابنه قد باع عن طريق الخطأ نوعاً من (عود) البخور الجيد الباهظ الثمن بثمن (عود) متوسط الجودة والسعر مما جعله يتكبد خسارة كبيرة، فما كان منه إلا أن وبخ ابنه على هذا الصنيع، ولكنه لم يعاقبه وفوض أمره إلى الله واحتسب خسارته الكبيرة، أمامن اشترى ذلك (العود) فقد ذهب به إلى (دكانه) وعرضه على زبائنه ولكنهم لم يعجبهم ذلك، ومكث لأكثر من شهر ولم يبع منه شيء، وبعد مدة عاد إلى صاحب الدكان الذي اشتراه منه ودخل على صاحبه الذي يعرفه لكثرة ما يتردد عليه ويشتري منه بالجملة وهو يحمل حقيبة (العود) وقال لصاحب الدكان: إن هذا هو العود الذي اشتراه من ابنه وهو كامل غير منقوص لعدم رغبة الزبائن في بلدته الشراء منه لعدم جودته فقام فرحاً إلى الحقيبة وتفقد بضاعته فإذا هي كما كانت فقال له بفرح الحمد لله فقد عاد إلي (العود) الطيب الغالي الثمن الذي باعه ولدي لك عن طريق الخطأ، فأبشر بعوض عنه بدون مقابل، وأخرج له حقيبة صغيرة بها (عود) متوسط الجودة وأعطاه له، وقال بع منه كذا وكذا من الريالات وما حصلت عليه من نقود فهي لك بلا مقابل شكراً لله على عودة (العود) الباهظ الثمن الذي أعدته إلي. سلوك اشتهرت عدد من مناطق المملكة بتوجيه سكان أبنائهم منذ الصغر إلى العمل معهم في مهنهم إلى جانب دراستهم في الصباح وذلك من أجل غرس حب العمل في نفوسهم فما إن ينهي الطالب دراسته ويعود إلى البيت ويأكل وجبة الغداء ويستريح قليلاً إلا ويهب مسرعاً إلى مكان عمل والده في السوق أو المحل الذي يملكه من أجل العمل معه، وقد برز العديد من هؤلاء الصغار في أعمالهم ومهنهم مما جعلهم يحلون مكان أبائهم فيتقن الصنعة أو المهنة، ومن أشهر هؤلاء هم سكان العاصمة المقدسة الذين تراهم في مواسم الحج والعمرة ويكثر الزائرون إليهم في كل وقت وحين من السنة، ومن أشهر مهنهم هي الطوافة التي ورثوها أباً عن جد ففيها شرف خدمة ضيوف الرحمن واستقبالهم والعمل على راحتهم بتوفير السكن المريح لهم طوال إقامتهم وتقديم الطعام وكافة الخدمات التي يطلبونها من تنقل بين المشاعر وغيرها، ومن المناطق التي اشتهرت بذلك أيضاً مدينة جدة وذلك لوجود الميناء بها وكثرة الوافدين إليها جواً وبحراً من المعتمرين والحجاج وكذلك منطقة الأحساء المشهورة بزراعة التمور، إضافة إلى منطقة القصيم، والعديد من البلدان الأخرى التي اشتهر شبابها بالعمل منذ الصغر مع ذويهم، وقد خرج من تلك الأجيال كبار التجار ورجال الأعمال والصناعة وغيرها من الحرف والمهن. فرص عمل بعد أن كثر الخريجين من المدارس والجامعات ولم تعد الوظائف الحكومية أو وظائف القطاع الخاص تستوعبهم جميعاً فقد ظهر بين الكثير من الشباب البطالة وباتوا يجلسون في البيوت في انتظار الفرصة لشغور وظيفة تناسب دراساتهم وتخصصاتهم، مما جعلهم يشكلون عبئاً كبيراً على ذويهم بالصرف عليهم، وبات الكثير منهم يأنف من العمل الحر كالبيع والشراء في الأسواق الموسمية أو الدائمة ولا يرضى بوظيفة مؤقتة ذات دخل متدني، وقد نسوا أو تناسوا ما كان عليه جيل الأمس القريب الذي ضرب أروع الأمثلة في البحث عن العمل ومساعدة الوالد في تحمل مصاريف المنزل، ولكن مع انتشار التوعية بأهمية ذلك ومساعدة عدد من المصالح الحكومية والقطاع الخاص بفتح المجال للشباب السعودي للعمل في العديد من المهن التي منع الأجانب من العمل فيها بغرض سعودتها كمحلات بيع الذهب ومحلات الجوالات وبيع الخضار وغيرها بدأ العديد من الشباب في اقتناص الفرص والدخول إلى سوق العمل الحر، واستطاع العديد منهم تحقيق النجاح في فترة وجيزة وكوّنوا محلات مؤسسات باتت ناجحة في سوق العمل، كما شق العديد من الشباب طريقه في التفكير بالأعمال الابتكارية التي تدر ربحاً كبيراً مثل سيارات بيع وتجهيز الأطعمة المتحركة والمقاهي على الطرقات وأماكن تجمع العائلات، بالإضافة إلى العمل في الأسواق الموسمية كأسواق التمور والخضروات، وبذلك بدأ جيل اليوم في التفكير الجاد بالعمل منذ الصغر رغبة في الاعتماد على النفس في مصروفه اليومي وتخفيفاً للعبء المثقل به الآباء في الصرف على متطلبات الأسرة المتعددة والمستمرة. الصغار يشاركون الكبار في العمل بميناء جدة قديماً الرحلات المدرسية قديماً كانت تنمي حب العمل الجماعي والتعاون بين الطلاب منذ الصغر عمل الشباب في مواسم الحج قديماً ولايزال رغم بساطة الحياة ومحدودية فرص العمل كان الشباب بالأمس يكافحون لكسب الرزق شباب جيل الأمس ساهم في العمل مع ذويهم لسد حاجة الأسرة حياة الأمس لم تكن تعرف ثقافة العيب في المهن اليدوية
مشاركة :