على الضفة الغربية من دجلة، لا يزال الدمار شاهداً على قسوة المعارك ضد المتطرفين في الموصل. لكن في الضفة الأخرى من النهر يستأنف السكان حياتهم عازمين على تعويض ما فات في القسم الأقل تضرراً من ثاني أكبر مدن العراق.منذ استعادة القوات العراقية السيطرة على المدينة الشمالية من تنظيم داعش، عاد المتعهدون والمستثمرون إلى الشطر الشرقي من المنطقة التي كانت يوماً مركزاً تجارياً إقليمياً. ويكرر السكان، لا سيما النساء والشباب، عبارة «كسرنا حاجز الخوف»، عاقدين العزم على بثِّ روح جديدة من الحرية في المدينة التي يُعرَف عنها أنها محافِظة، وأصبحت بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 معقلاً لتنظيم القاعدة، قبل وصول تنظيم داعش.وفي دلالة على العهد الجديد، وجدت نسرين (31 عاماً) وظيفة كبائعة في متجر للملابس التركية افتتح قبل أقل من شهر. وحتى قبل دخول المتطرفين، لم تكن نسرين تتخيل أنها ستتمكن يوماً من العودة إلى منزلها عند العاشرة ليلاً، بعد يوم عمل طويل. ورغم حلول الليل في شرق الموصل، فإن نسرين بحجابها الأحمر القاني الذي يُظهِر الجزء الأمامي من شعرها، لا تزال تقدم النصائح للزبائن داخل المتجر.في واجهة العرض، تماثيل عرض الملابس التي ألبست تنانير فوق الركبة، إلى جانب مكبرات صوت تبث بصوت مرتفع أحدث الأغاني الآتية من أميركا اللاتينية أو لمغنيات لبنانيات ومصريات.وسط سراويل الجينز الضيقة والقمصان الملونة، تتذكر نسرين السنوات الثلاث التي عاشها نحو ثلث العراق تحت حكم تنظيم داعش. تقول الشابة لوكالة الصحافة الفرنسية: «لقد عانينا من الاكتئاب والجوع والدمار والاضطهاد. إنها معجزة أننا ما زلنا على قيد الحياة». وتضيف: «لقد عشنا كابوساً طويلاً، والآن صحونا واختلف كل شيء».تحت حكم المتطرفين، «إذا عثر على صبي وفتاة معاً، فقد يواجهان الإعدام»، وفق ما تشير رحمة (21 عاماً) التي تدرس الترجمة في جامعة الموصل. هناك تتجمع الفتيات اللواتي يرتدين الحجاب بألوان مختلفة، والشبان بسترات وشعر مصفف بعناية بالاستعانة بمستحضرات. وتوضح رحمة أن عمل الفتيات خارج المنزل ومع الرجال، حتى قبل دخول المتطرفين عام 2014، «لم يكن يمكن تخيله». أما اليوم، في المتجر الذي تعمل فيه نسرين، فهناك تسع نساء من بين 22 موظفاً.ويقول زياد الدباغ، الذي افتتح لتوه مطعماً في حي الزهور التجاري في شرق الموصل، إنه في السابق «كان سكان الموصل يذهبون إلى محافظات أخرى في العراق بحثاً عن الترفيه».على ثلاث شرفات وفي أربع قاعات، تتوزع عائلات لتناول العشاء ومجموعات من الشبان الذين يحتسون الشاي.تشير رؤى الملاح (34 عاماً) التي خرجت الليلة مع عائلتها: «كان الأمر كما لو كنا قد ضعنا في وسط الصحراء، انقطعنا عن كل شيء، وفجأة اكتشفنا أنه كان بإمكاننا أن نرفه عن أنفسنا».في المبنى المجاور، خلف باب زجاجي ووسط سحابة من دخان النراجيل، رجال يحملون بأيديهم أوراق اللعب، قرب آخرين يتحلقون حول طاولة بلياردو، وهم يشربون العصائر. فتح مازن عفيف محله في مايو (أيار) الماضي، فيما كانت المعارك تتواصل في الشطر الغربي من المدينة.يجسد نادي البلياردو هذا، بمدخنيه وموسيقاه، كابوس المتطرفين الذين كانوا يفرضون القانون «منذ أكثر من عشرة أعوام». يقول الخمسيني الذي يجلس أمام طاولة عليها دفتر حجوزات البلياردو: «بعد الساعة السادسة مساء كانت الطرقات تخلو من الناس. أما اليوم فيمكنني العودة إلى منزلي عند الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، من دون خوف». ويضيف: «هذه حياة جديدة تبدأ، بكل ما للكلمة من معنى».تعتزم نسرين الاستفادة من تلك الحياة إلى أقصى حد، خصوصاً مع ابنتها ذات الأعوام الـ14 التي فقدت عامين من الدراسة في ظل حكم المتطرفين. وتؤكد نسرين أن ابنتها «ستلتحق بالمدرسة مجدداً وستتابع دراستها لاحقاً». وتضيف: «راتب المرأة هو سلاحها. والجيل الجديد، سيكون مسلحاً بشكل جيد».
مشاركة :