حدث هذا قبل انفجار حرب السبعينات في لبنان. كنت متوجهاً عبر «شارع الحمرا» نحو مستشفى الجامعة الأميركية عندما استوقفني نداء كاهن رأيته يمد يده للمصافحة. وتفرّست في ملامح وجهه على أمل أن أتذكر اسمه، فلم أوفق. ابتسم وهو يشدّ على يدي ويقول: لا تتعب نفسك... لن تعرفني. ثم نطق باسمه همساً: أنا وديع حداد! وقبل أن أفيق من صدمة تنكره بلحية كاهن أرثوذكسي وقلنسوة سوداء تحجب نصف جبهته، طلب مني الدخول إلى «كافيه دو باري» لتناول القهوة معاً. وقبل أن أبادر إلى طرح الأسئلة المتعلقة بأسباب تنكره، سارع إلى سرد بعض التفاصيل، بينما كانت عيناه مسمّرتين بباب المقهى. قال بصوت منخفض الوقع: «قبل شهرين تقريباً أخبرني نسيب أنزل في شقة يملكها في «رأس بيروت» أن صحافية بلجيكية استأجرت شقة في بناية محاذية، وادّعت أنها مكلفة بمهمة إجراء تحقيق عن السياحة في لبنان...»، ثم أكمل وهو يرشف قهوته بسرعة، ويقول: «اكتشفت لحسن الحظ أن تلك الصحافية لم تكن سوى جاسوسة إسرائيلية مكلفة باغتيالي». وقاطعته مستوضحاً: «وكيف اكتشفت هذا الأمر؟». قال إنها غادرت بيروت فجأة بعد أن نصبت مقابل الشقة التي أسكنها صاروخاً موجهاً موقوتاً لم يلبث أن انفجر في غرفة نومي عقب إقلاع الطائرة. والصدفة وحدها أنقذتني لأنني كنت خارج الشقة. قلت بلهجة اعتراضية: من المؤكد أن «الموساد» يلاحقك، إضافة إلى عناصر الاستخبارات المركزية الأميركية. ربما نسيت أن الجبهة التي أسستها مع الدكتور جورج حبش أعلنت مسؤوليتها عن خطف ثلاث طائرات ركاب أميركية، جرى تفجيرها فوق مدرج «مطار الثورة» في منطقة الزرقاء الأردنية. أريد أن أسألك عن الغاية من استهداف مصالح الولايات المتحدة، بينما المغتصب الإسرائيلي يقبع في فلسطين؟ خرج جواب وديع حداد بنبرة انفعال غير مألوف كأن سؤالي أخرج من صدره احتقاناً دفيناً عبّر عنه بهذه الكلمات: واشنطن في رأيي تختصر كل العداوة للفلسطينيين كونها تؤمّن لربيبتها إسرائيل كل المساعدات الاقتصادية زائد الدعم العسكري المتوفر من دون حدود. غايتنا من ضرب المصالح الأميركية محاولة قطع رأس الأفعى. لقد ورثت الإدارات الأميركية المتعاقبة دور المساندة والرعاية لإسرائيل منذ سنة 1948. هل عرفت الآن ما هي غايتنا من ضرب مصالح القوة المهيمنة التي تدعم استمرار هذا الجسم الغريب في منطقة الشرق الأوسط؟! بعد مرور نحو من نصف قرن على ذلك اللقاء العفوي، تذكرت كلام وديع حداد وأنا أقرأ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وبما أن ترامب لم يذكر أي القدسَيْن يعني، الغربية أم الشرقية، فقد استغلت الحكومة الإسرائيلية هذا الالتباس لتطلب من الكنيست التصويت على قانون «القدس الموحدة». ويقضي هذا القانون بعدم جواز تسليم أراضٍ من المدينة الموحدة إلى أي كيان سياسي آخر أو سيادة أجنبية في إطار أي تسوية للصراع في المستقبل، إلا بتأييد ثلثي أعضاء الكنيست (80 عضواً) الأمر الذي يُعتبَر صعب التحقيق. ومن أجل استغلال الموقف المنحاز للإدارة الأميركية، صوتت اللجنة المركزية لحزب «ليكود» بالإجماع على مشروع قرار يلزم الحزب الحاكم بفرض سيادة إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة ومختلف المستوطنات، وغور الأردن. ومثل هذا المشروع يضمن وحدة القدس بشقيها، إضافة إلى جبل الزيتون والبلدة القديمة. ومن أجل تشجيع ترامب على الاستمرار في انحيازه الأعمى، قرر وزير المواصلات الإسرائيلي إسحق كاتز مكافأته بإطلاق اسمه على محطة سكة حديدية تصل تل أبيب بالقدس. وهو مشروع سيكلف أكثر من 700 مليون دولار، وتستغرق عملية تنفيذه أربع سنوات. والوزير كاتز الذي يشغل أيضاً منصب وزير الاستخبارات هو الحليف الأقرب إلى بنيامين نتانياهو، والذي رشحه لخلافته في رئاسة الوزارة. وكان متوقعاً أن يحتج سكان القدس الشرقية على مشروع يقتضي تحقيقه حفر نفق يمر تحت كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، ثم ينتهي أمام حائط المبكى حيث الموقع المقدس لليهود. وأعلن الوزير كاتز أن مشروعه هذا من المتوقع أن ينقل أحد عشر مليون سائح إلى القدس سنوياً. وقال أيضاً إنه سيحفر على اللوحة الرخامية هذه العبارة: «اعترافاً بالجميل لرئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب على جرأته وقراره التاريخي بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل». وبدلاً من الاكتفاء بهذا القدر من الانحياز والتعاطف مع إسرائيل، فقد هدد ترامب بوقف المساعدات المالية التي تقدمها واشنطن سنوياً للفلسطينيين والتي تبلغ 300 مليون دولار. في حين تحصل إسرائيل سنوياً على أكثر من ثلاثة بلايين دولار، إضافة إلى مساعدات عسكرية مجانية. وفي معرض الدفاع عن موقفه، قال ترامب في تغريدة على حسابه على موقع تويتر: «نحن ندفع مئات ملايين الدولارات سنوياً للفلسطينيين، ولا نحصل منهم على أي تقدير أو احترام. وطالما ما عادوا يريدون التفاوض على السلام، لماذا ينبغي علينا أن نسدد لهم هذه الدفعات؟» وكانت هذه التغريدة الكذوبة بمثابة تبرير لإلغاء الدعم المالي لوكالة «أونروا»، مبتدئاً بتجميد مبلغ 125 مليون دولار من المساهمة السنوية. ويبدو أن نتانياهو كان المحرّض الأول لاتخاذ ترامب هذا الموقف الداعي إلى إغلاق وكالة غوث اللاجئين (أونروا) التابعة للأمم المتحدة. والسبب أن رئيس الحكومة الإسرائيلية علق على التهديد الأميركي بالقول: «يجب إزالة هذه الوكالة من الوجود. ذلك أنها تديم مشكلة اللاجئين وحق عودتهم الذي يهدف إلى تدمير دولة اليهود». ويُستنتَج من هذا التعليق أن إسرائيل طامعة في استغلال انحياز ترامب، بحيث تشجعه على إلغاء كل المؤسسات والوكالات والتعهدات الضامنة لحق الفلسطينيين في استعادة دولتهم فوق أرضهم. «الموساد»، في تقريرها الأسبوعي، حذرت من احتمال زيادة عمليات الاغتيال لشخصيات إسرائيلية، واقترحت توخي الحيطة والتنبه. لذلك قدم حزب «إسرائيل بيتنا» اليميني المتطرف مشروع قانون يسمح بتنفيذ عقوبة الإعدام بحق فلسطينيين تتم إدانتهم بقتل إسرائيليين، علماً أن إعدام النازي إيخمان جرى بموجب قانون استثنائي استحدثه ديفيد بن غوريون لمعاقبة كل مَنْ شارك في «الهولوكوست». هذا، مع توضيح أن تصفية الفدائيين الفلسطينيين من أمثال: كمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر وأبو جهاد وأبو إياد ومؤسس «حماس» أحمد ياسين ومؤسس «الجهاد الإسلامي» فتحي الشقاقي... وعشرات غيرهم. تلك العمليات التي اشترك في تنفيذها كبار العسكريين الإسرائيليين كانت تتم تحت شعار حماية الأمن القومي! وسط هذه التحولات المتسارعة، شعرت السلطة الفلسطينية بأنها خسرت الوسيط النافذ الذي عطل ترامب دوره المركزي. لذلك اضطر محمود عباس لأن ينقل أثقال المهمة إلى دول الاتحاد الأوروبي لعله يملأ الفراغ الذي أحدثه غياب الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن يتوجه إلى بروكسيل قريباً حاملاً معه سلسلة مطالب أهمها اعتراف أوروبي بدولة فلسطين. وقد شجعه على هذا الأمر تصريح وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون الذي قال إن وضع القدس يجب أن يكون في النهاية العاصمة المشتركة لإسرائيل والدولة الفلسطينية. كذلك فعل زميله وزير الخارجية الإرلندي الذي اعتبر قرار ترامب «خطأ كبيراً من شأنه إفشال محادثات السلام، وجعل هذه العملية أصعب مما نتوقع». آخر الأسبوع المقبل سيزور المنطقة نائب الرئيس ترامب، مايك بنس، بعد تأجيل زيارته مرتين. وأعلن البيت الأبيض أنه سيقوم بزيارة مصر والأردن وإسرائيل. ووفق وزارة الخارجية الإسرائيلية، فإن المسؤول الأميركي سيزور الرئيس رؤوبين ريفلين ورئيس الحكومة بنيامين نتانياهو. ويشتمل برنامجه أيضاً على زيارة الحائط الغربي (حائط البراق) وإلقاء كلمة في الكنيست. أما بالنسبة إلى برنامجه في الضفة الغربية المحتلة، فقد أكد الدكتور نبيل شعث أن السلطة الفلسطينية متمسكة بموقفها المتمثل بعدم استقبال بنس. كما أن مسؤولي كنيسة القيامة في القدس الشرقية، والكنيسة القبطية في مصر، أعلنوا عدم استقباله احتجاجاً. ولمن يجهل تاريخ هذا الزائر الرسمي الأميركي، لا بد من نشر بعض المعلومات عن ماضيه المريب. ذلك أنه لعب دوراً مؤثراً جداً في إيصال ترامب إلى رئاسة الجمهورية يوم أمّن له ما نسبته عشرين في المئة من أصوات الناخبين. وجاءت هذه النسبة من الطائفة الإنجيلية- الصهيونية التي يقودها مايك بنس. وهو يؤمن بعودة المسيح شرط تجمع كل أتباعه في الأراضي المقدسة بفلسطين وهذا ما يطمح إلى تحقيقه. واللافت أن ترامب حرص على وجود بنس أثناء إعلانه اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل. وهو حالياً مرسله إلى المنطقة لعله يصحح الخطأ التاريخي الذي ارتكبه بناء على نصيحته. وتقول صحيفة «لوس انجليس تايمز» في افتتاحيتها الأخيرة: «إن غطرسة ترامب، وجهله، وقصر نظره كلها أدت في نهاية المطاف إلى خلق وضع غير مرضٍ لسياسة أميركا». ونتج من هذا الوضع خسارة واشنطن لدورها المستمر منذ مئة سنة، وتجيير الفلسطينيين قضيتهم إلى روسيا ودول الاتحاد الأوروبي. *كاتب وصحافي لبناني
مشاركة :