رحلة الشاعر بلا نهاية وقطاره بلا محطاتعبدالمنعم رمضان من أبرز شعراء جيل السبعينات في مصر واشترك في تأسيس جبهته الشعرية وتثوير ذائقته الإبداعية، والقطيعة مع التيارات السابقة، ويرى الكثير من النقاد والمبدعين أن شعره صعب، لكنه يرى أن شعره واضح إلى درجة الفضح، “العرب” التقت الشاعر في حوار خاص حول تجربته.العرب خالد بيومي [نُشر في 2018/01/13، العدد: 10868، ص(13)]أقرأ الرواية من أجل أن أكتب الشعر القاهرة - يعد الشاعر عبدالمنعم رمضان من أهم الأصوات الشعرية المصرية، شارك في تأسيس جماعة “أصوات” إحدى الجماعتين اللتين مثلتا حصريا ما يسمى بشعراء السبعينات، وحصل على جائزتي كفافيس والمنتدى الثقافي اللبناني بباريس، وترجمت قصائده إلى عدة لغات أوروبية. بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على انطلاق تجربته الشعرية، يحدثنا عبدالمنعم رمضان عن المحطات الكبرى التي انتابه فيها شعور بأنه حقق تحولا في كتابة القصيدة، قائلا “بعد مرور ثلاثين عاما، أعتقد أنني تخلصت تماما من هاجس أن أكون صاحب تحول ملموس في الكتابة الشعرية، أعترف أن الشعر أكبر مني، وأنني إذا حاربته – وأنا أحاربه دائما- لا أنسى أنه أطول مني عمرا، وأحلم مع الشعر حلما وحيدا، وهو أن أكون كائنا مفردا بداخله. فتحويل المسارات هاجس لا يقوم به فرد واحد، ولكنه هاجس تقوم به حقبة زمنية وجماعة من الشعراء، إلا أنني الآن أسعى لكي أكون فردا واحدا دون هواجس كبيرة”. الوضوح والفضيحة يحدثنا رمضان عن ديوانه الأول “الحلم ظل الوقت.. الحلم ظل المسافة”، الذي يقول إنه ظهر ضمن عمل جماعي، مضيفا “كنا أيامها خمسة شعراء وفنانا تشكيليا قد شكلوا جماعة ‘أصوات‘ الشعرية، وفي المقابل شكل زملاء لنا جماعة أخرى اسمها ‘إضاءة‘، حيث كنا مسكونين بحلم التغيير، وكان جوهر دستور الجماعة يقوم على أن الفرد لا يقوم بنفسه، ولكن بالجماعة التي ينتسب إليها. ديواني الأول هو ديوان مراهقتي الجميلة جاءت قصائده رديئة، وهذا أبرز ما فيه. إنه يدل على ما يمكن أن أكونه. لقد تعطلت خاطرتي بعد هذا الديوان، كما أنني اعتمدت النشر المنجم بالصحف والمجلات، إضافة إلى أنني كنت في انتظار ما لا يجيء، لأن الظروف الثقافية في تلك الفترة كانت مظلمة، ولم أكن جاهزا للخروج عليها تماما ومحاربتها.نقد جارح كحد السكين وفي النصف الأول من تسعينات القرن الماضي سعيت إلى نشر ديواني الثاني الذي أعتبره الآن بمثابة عملي الأول وهو ديوان ‘قبل الماء فوق الحافة‘”. تجربة رمضان تركز على شعرية القصيدة في المقام الأول، نسأله هنا عن نجاحه في خلق مسافة بين ما هو سياسي وما هو شعري ليجيبنا بأن أحد أهم أسئلته التي يطرحها على نفسه هو سؤال المسافة، يقول “عندما أذهب إلى معرض فن تشكيلي أحس أنني يجب أن أضبط المسافة بيني وبين اللوحة التي أتأملها؛ لأنني إذا اقتربت جدا لن أراها، أمام اللوحة لا بد أن أضبط المسافة. كذلك في علاقتي بالمؤسسات الثقافية الرسمية في مصر كنت مشغولا أيضا بضبط المسافة، فأنا لا أقترب منها حتى لا أحسب عليها، ولا أبتعد عنها حتى لا أصبح منفيا تماما. إنني أضبط المسافة لأن مؤسسات الدولة ليست خيرا كلها، وليست شرا جميعها. في حياتي أعتمد فكرة أنني شاعر بين الحين والحين، أنا شاعر عندما أكتب قصيدة، وخارج القصيدة أنا كائن بسيط يتعامل مع العالم المحيط به بوعي نقدي، وحشرية كاملة أحيانا، وناقصة أحيانا أخرى وكان محمود درويش يقول ‘الشعراء عاديون ما بين القصيدة والقصيدة‘”. في شعر رمضان أيضا تعامل خاص مع اللغة، فلغته قريبة من لغة الحياة اليومية، والتي لا تتعارض مع الفصحى، يعلق ضيفنا “قلت ذات مرة: إنني أقرأ الرواية من أجل أن أكتب الشعر، وأتفادى – غالبا – قراءة الشعر. وقلت مرة أخرى: إنني نشأت في بيت يحب الحكايات، كان أبي حكاء عظيما، بينما كانت أمي – أيام طفولتي – تغني لنا أغنيات جميلة، وأظن أن بعضها كان مبتكرا وليس من محفوظاتها. في طفولتي، نشأت بين الأغنية والحكاية، بين أبي وأمي، أحببتهما كليهما، وإن كنت قد احترمت كبرياء أمي أكثر، واحترمت عفوية أبي أكثر، فحكايات أبي كانت هي العفوية، وغناء أمي كان محبوكا. في طفولتي نشأت بين العفوية والفن المحبوك. وأظن أن طفولتي تطاردني حتى الآن. لقد كتبت سيرة ذاتية بعنوان ‘متاهة الإسكافي‘، وكأنني أكتب روايتي، وأكتب الشعر على أنه رواية، وعلى أنه شعر أيضا”. ويذكر رمضان أن الكاتب الكبير إدوار الخراط وصفه بأنه شاعر الحافة، ويظن أنه كذلك، مقرا بأنه على الحافة سوف يقيم، وسوف يغادر في الآن نفسه. وصف الناقد الراحل محمود أمين العالم شعر رمضان بأنه شعر صعب، يقول الشاعر حول ذلك “ذات مرة اتصل بي الروائي الكبير صنع الله إبراهيم على تليفون المنزل، فرد عليه ابني وتبادل معه الحديث والمداعبة وسأله: ما رأيك في شعر أبيك؟ فأجاب: لا يعجبني. فقال صنع الله: أليس كذلك يا أخي. وأصبحت هذه المقولة تخصني. ربما ينتمي محمود أمين العالم وصنع الله إبراهيم إلى أرض واحدة، وربما يكون سؤال الفن عندهما متقاربا، لكنني أظن أنني عندما أكتب قصيدتي أكون واضحا إلى حد الفضيحة، خاصة أنني أعتبر الوضوح الكامل فضيلة. نحن لا نستطيع أن ننظر إلى النور في عينه، ونفضل أن نراه منعكسا على الأشياء. ليس عندي ما يجب أن أحوله إلى فضيحة. عندي كائنات أحب أحيانا أن تنتشر، وأحب أن يظهر منها بعض أجزائها، وفي أحيان قليلة أحب أن تظهر كاملة، وأنا ألبي رغبة هذه الكائنات. لماذا تريد أن تراني عاريا؟ ألا يكفيك أن تراني فقط؟”.شعر واضح إلى درجة الفضح طاقة الغضب نتطرق مع الشاعر إلى الحديث حول ديوانه الأخير “الحنين العاري”، يقول عنه رمضان “حاول أن ترى الجنين عاريا، ربما لا ترى شيئا، إنني أعري ما لا يُعرى، ولكنني لا أعرف الحنين إلى ماذا؟ ولو أن الشاعر يملك الإجابة عن هذا السؤال لما كتب قصيدة واحدة. الشاعر يمشي وراء السؤال، وليس مهما أن يصل إلى إجابته، المهم أن يقطع الطريق الذي يقطعه السؤال، وأنا أقطع الطريق الذي يقطعه السؤال. ومن أبرز أسباب استمراري في كتابة الشعر أنني لا أصل إلى إجابات. قطاري لا يملك محطات للوصول، ولكنه يملك فقط محطات للانتظار؛ لأن محطة وصولي ستكون موتي ونهاية مشواري”. نقد رمضان جارح كحد السكين حتى الموجه إلى أقرب أصدقائه، حتى أننا نرى أنه يصر على أن يخسر كل يوم صديقا، لكنه يقول “لدي عبارة شعرية تقول ‘أشتهي أن أكون الحجارة فوق الرؤوس”. هذه الشهوة تملكتني وتغلبني على نفسي. العالم دائما ليس ملائما، والأصدقاء دائما ليسوا ملائمين. في كل الأوقات أهاجم من أهاجمه بلا كراهية، أحتفي بالغضب وأتجنب الكراهية، الغضب يلازمني في كل محطات قيامي، ولو تخليت عن غضبي، لتخليت عن وقود لا أستطيع أن أعوضه، فلا تلمني على غضبي”. ونذكرأن عبدالمنعم رمضان من الشعراء القلائل المتفرغين للإبداع بعد أن ترك وظيفته في الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، وعكف على معايشة أحلامه وقصائده بإخلاص شديد. من الكتب التي صدرت له نذكر “قبل الماء فوق الحافة”، “لماذا أيها الماضي تنام في حديقتي”، “الصعود إلى المنزل”، “الحنين العاري” وغيرها.
مشاركة :