يموت مفترى عليه، والعالم يكنّ له كراهية لم يكنها لأحد في عصره، لكن حياته كانت سعياً دائباً لنظرة تركيبية لكل التاريخ والثقافة، ولإقامة أيديولوجيا ورؤية شاملة للعالم، ولحضارة أفضل وأرقى. بهذه الكلمات أبّن إنغلز صديق عمره وزميله ماركس الذي تصادف هذا العام المئوية الثانية لولادته. فالأفكار الجذرية التي طرحها هذا الفيلسوف، كما رؤيته إلى تحقيقها في الوجود السياسي والاجتماعي، شكلت أكبر تحدٍّ للفكر السائد وللطبقة البورجوازية المهيمنة وللأنظمة الحاكمة. وقد زج ماركس نفسه في العمل السياسي والاجتماعي دفاعاً عن هذه الأفكار، فاعتنق مذهب هيغل، وانضم إلى الهيغليين اليساريين، وعمل في الصحافة ضد الأوتوقراطية الألمانية، وجاء إلى باريس حيث تعرف على المذاهب الاشتراكية ودرس الاقتصاد السياسي. وإذ طردته السلطات الفرنسية 1845 رحل إلى بروكسيل ليطرد منها إلى ألمانيا حيث شارك مع إنغلز في ثورة 1848، ثم إلى لندن 1849 حيث عاش بقية حياته، معوزاً إلا من المساعدات المالية التي كان يغدقها عليه إنغلز الميسور الحال، ومن بعض الكتابات للصحف الأميركية. تكونت مبادئ المذهب الماركسي تدريجاً بين 1843 و1846، ووجدت تعبيرها الأول في «البيان الشيوعي» الذي صدر عام 1848، وجاء فيه أن تاريخ المجتمعات الإنسانية هو تاريخ نضال بين الطبقات، وأن المجتمع آخذ في الانقسام إلى طبقتين متعاديتين: البورجوازية والبروليتاريا، وقد أناط ماركس بالأخيرة رسالة إسقاط الرأسمالية وإنهاء المجتمع الطبقي انطلاقاً من أن الرأسمالية هي إحدى مراحل التطور التاريخي، وأن تناقضاتها الذاتية ستؤدي إلى نهايتها الحتمية. وذهب ماركس إلى حد النقض الجذري للدين والقول بالمادية التاريخية التي تزعم أن المادة هي كل الوجود، وان الوجود تطور متصل للقوى المادية، وصولاً إلى الإنسان الذي هو أجلى مظاهر هذا التطور. والتاريخ البشري وفقاً لذلك رهن بالظروف المادية التي بها يتحدد نمط الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية، فليس تفكير الناس هو الذي يحدد نمط وجودهم الاجتماعي، بل نوعية هذا الوجود هي التي تحدد نمط التفكير. واستناداً إلى هذه المبادئ المركزية، حدد ماركس رؤيته إلى المجتمع والدين والاقتصاد والثورة. لكن لو كان لماركس أن يعيد النظر في هذه الرؤية في المئوية الثانية لولادته لوجد أن التاريخ قد أنصف بعضاً من مقولاته فيما خيّب أخرى، وأن كثيراً من توقعاته وتنبؤاته لم يصمد أمام متغيرات التطور وتحولاته، ولوجد كذلك أن ثمة تشوهات كبيرة لحقت بنظريته، حتى عند الذين ادعوا التزامها والدفاع عنها. سيجد ماركس أن صورة البورجوازية كما وصفها في بيانه الشيوعي جاءت مطابقة للواقع، فقد سحقت البورجوازية بالفعل جميع العلاقات الإقطاعية والبطريركية والعاطفية، وتغلغلت ووطدت دعائمها في كل مكان، وجرت إلى تيار المدنية كل الأمم، حتى أشدها همجية، وجمعت الملكية في أيدي أفراد قلائل. باختصار خلقت البورجوازية عالماً على صورتها ومثالها. وبرهنت سيرورة التاريخ بل أكدت صواب الرؤية الماركسية، فقد غزت الرأسمالية بمنتجاتها وأنماط سلوكها وأخلاقها كل العالم بحيث باتت البشرية مرتبطة ببعضها بشركات النقل وأجهزة الاتصال، وتم تمركز رأس المال في أيدي أفراد قلائل، حيث أشارت تقارير التنمية البشرية منذ التسعينات إلى تفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتكدّس الثروة في أيدي القلة الثرية، فيما هناك بلايين المعوزين والفقراء. سيكرر ماركس ما قاله في بيانه: «لقد أصبح وجود البورجوازية منذ الآن فصاعداً غير ملائم مع وجود المجتمع». لكن ماكس سيجد في المقابل، أن تصوره «الوطن» و «الدين» مع تطور الرأسمالية لم يكن صحيحاً، وأنه لم يقدر البعدين الوطني والديني في الإنسان وأهميتهما التي أثبتها القرنان الماضيان. فالدين والوطن لصيقان بالإنسان، وطالما كانا في مقدّم الحراك السياسي والاجـــتــمـــاعي، والملهمين لأكثر الحركات السياسية والاجتماعية في العالم، وبالتحديد في العالم الثالث. سيجد أن رهانه على الـــبروليتـــاريا لبـــناء المجتمع الجديد الخالي من الطبقات كان وهماً من الأوهام لم يلبث أن أسقطه مسار التاريخ، إذ كشف أن كل الثروات أدت إلى إحلال سيطرة طبقة محل سيطرة طبقة أخرى. سيجد أن فلسفته التي شاءها فاتحة عهد جديد للحرية، تحولت إلى ذريعة لتبرير الدكتاتورية وإسقاط أبسط المبادئ الليبرالية المعترف بها في المجتمع البورجوازي، ألا وهي حرية الاعتقاد والرأي. سيجد ماركس أنه كان مسؤولاً عن تضخيم العامل الاقتصادي وتغليبه على ما عداه من العوامل التاريخية، فالأفكار السائدة في عهد من العهود وإن كانت على علاقة مع أفكار الطبقة المسيطرة، إلا أنها ليست هذه الأفكار فقط، كما تصوّر، بل هي إرث إنساني أبعد من الظروف التي انبعثت في ظلها. وسيجد أيضاً أنه كان مسؤولاً عن العنف الدموي الذي ميّز الحركات الماركسية من بعده، واستمد أسسه ومبرراته من ديكتاتورية البروليتاريا التي قالت بالعنف والشدة في هدم علاقات الإنتاج البورجوازية، فكان أن أسقط العنف كل القيم الليبيرالية. سيكشف ماركس أن الرأسمالية استطاعت تجاوز أزماتها ووقفت رغم كل أزماتها، وراء كل الإنجازات الحديثة في الفكر والفلسفة والعلم، كما استطاعت أن تقدم نفسها على أنها الحاملة لمبادئ حقوق الإنسان والمدافعة عن التقدم والحداثة، فيما ارتبط بالبروليتاريا العنف والإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان. واستطاعت الرأسمالية أن تحقق ثورة في الإنتاج والإعلام، وأن تخطط بثقة واطمئنان للمستقبل، بينما سقطت رهانات دولة البروليتاريا سقوطاً ذريعاً. هل يعني هذا بطلان مقولة ماركس في حتمية سقوط البورجوازية وانتصار البروليتاريا؟ هل سقطت فلسفته كمرشد لدراسة التاريخ؟ وهل سينحو ماركس باللائمة على الماركسيين الكسالى الذين يتذرّعون بالمادية التاريخية كي لا يدرسوا التاريخ، مصراً على أن فلسفته لا تزال مرشداً للتطور والتقدم التاريخي؟ إن التفاوت المطرد في توزيع الثروة العالمية وتصاعد أرقام البطالة والجياع والمهمشين، بالترافق مع الخلل البيئي وانهيار قيم التنوير الليبرالية، سيدفع الإنسانية إلى البحث عن تغيير جذري في النظام العالمي يستحيل معه استمرار الاتجاه الراهن للتطور الرأسمالي. ما يعيد الاعتبار إلى مقولة ماركس: «لقد أصبح وجود الرأسمالية أكثر من أي وقت مضى غير ملائم مع وجود المجتمع».
مشاركة :