شهد النثر العربي منذ أقدم العصور تقلبات كثيرة تجلت في مختلف الأساليب والفنون وخلف نتاجات أدبية قيمة، إلا أن من يتتبع نتاجات الأقدمين ومؤلفاتهم نظماً ونثراً يری أنهم عنوا بالفنون الشعرية المختلفة عناية خاصة في نتاجاتهم، وتعد المقامات أحد الفنون النثرية التي يبالغ فيها الاهتمام باللفظ والأناقة اللغوية وجمال الأسلوب، ونتيجة للتطور الثقافي والسياسي والاجتماعي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ظهر نوع أدبي جديد يدعی بالمقامات يمکن القول: إن جوهرها تلك القصص والحکايات، إلا أن مبدعيها تعمدوا التصنيع والتأنيق فيها، وبالتالي هو ثمرة لتطور داخلي ونوعي للفكر الأدبي العربي بعد قرون من البناء الحضاري، وهذه المقامات تضم الحکايات والنوادر والمطايبات، بينما لا تخلو من جوانب تاريخية وحکمية وأدبية، قصة قصيرة لها وبطل، تقوم على حدث ظريف مغزاه مفارقة أدبية أو مسألة دينية أو مغامرة مضحكة، تحمل في داخلها لوناً من ألوان النقد أو السخرية وضعت في إطار من الصنعة اللفظية أو البلاغية، وهي أقرب إلى أن تكون قصة قصيرة تكتب بلغة إيقاعية ينقلها راوٍ من صنع خيال الكاتب، يصوره وكأنه قد عاش أحداثها، ولها بطل إنساني مشّرد ظريف ذو أسلوب بارع وروح خفيفة، يتقمص في كل مرة شخصية معينة، يضحك الناس أو يبكيهم أو يبهرهم؛ ليخدعهم وينال من أموالهم، ضمن حدث ظريف فحواه نادرة أدبية أو مجموعة مسائل دينية أو مغامرة هزلية تحمل في طياتها لوناً من ألوان النقد والسخرية وسقوط القيم؛ لتمثل صوراً من الحياة الاجتماعية في العصر الذي كتبت فيه، هدفها نقد العادات والتقاليد السيئة والشخصيات السلبية فى المجتمع، وتقوم على التفنن في الإنشاء، والاهتمام باللفظ والأناقة اللغوية وجمال الأسلوب، وغالباً ما تؤخذ أسماء المقامات من اسم البلد الذي انعقد فيه مجلسها، فمن أسماء مقامات الحريري: المقامة الصنعانية، المقامة الحلوانية، المقامة الكوفية، المقامة المراغية، المقامة الدمشقية، المقامة البغدادية، المقامة السنجارية... وتختلف المقامات فيما بينها في الطول، فقد تكون طويلة، وقد تكون قصيرة، وأمّا الرّوّاد الّذين ظهروا في مجال هذا الفنّ، يتقدمهم بديع الزّمان الهمذانيّ (357 هـ - 398 هـ)، والحريريّ (446هـ - 516هـ)، فقد كانوا من أبرز كتّاب المقامات في العصر العباسيّ؛ إذ كانت مقاماتهم ذات موضوعات متنوّعة ومختلفة تحوي في طياتها الطّابع الأدبيّ أو الفقهيّ أو الفكاهيّ أو الحماسيّ أو المجونيّ، وكانت المقامات في حينها تتفاوت في حجمها بين الطّويلة والقصيرة؛ وفق الموضوع المتناول بعيداً عن التّصنيف في عرضها من حيث الموضوعات. المقامة لغة الجماعة من النّاس، والمجلس، والخطبة أو العظة، كما ورد تعريف لفظة المقامة "بفتح الميم" بأنّها القصّة القصيرة المسجوعة، الّتي تحتوي على عظة أو مُلحة، وقد كان الأدباء يظهرون فيها براعتهم، ويقال في توضيح معناها لغةً: مَقَامَةُ النَّاسِ؛ أي مَجْمَعُهُمْ، مَجْلِسُهُم. أمّا اصطلاحاً: ورد تعريفها في الأدب العربيّ بأنّها: الحديث في مجلسٍ ما. وإذا ما تطرقنا إلى تفاصيل فنّ المقامة، لوجدنا أنّها تتبع الأسلوب السردي، بأسلوب سطحي بسيط، وكان معظم كتاب المقامات يبدأون السرد في مقاماتهم إما بعبارة حدثنا وإمّا بعبارة حدّث وإمّا بعبارة حكى، وإمّا بعبارة أخبر، إمّا بعبارة حدثني، وهي أداة سرديّة كانت تصطنعها شهرزاد في سرد حكايات ألف ليلة وليلة، وفي هذا المقام من الجدير أن نبين أجمل ما يميّز المقامة، الأدوات السّرديّة، والشّخصيات الأدبيّة المرحة - الطّمّاعة، المخادعة مع سطحيّة الموضوعات وضحالتها، والتّأنق في لغتها؛ لمعالجة القضايا الاجتماعيّة والسّياسيّة للمجتمع الّذي كُتبّ فيه. وللمقامة عناصر أساسية أو بناء تسير عليه مكون من دعائم لتصل إلى وحدة فنية وهي: الراوي: يكون في كل مقامة راوٍ هو من يحكي المقامة، شخصية ثابتة عند كل كاتب، ودائماً ينتمي للطبقة الاجتماعية المتوسطة، فراوي مقامات الهمداني هو (عيسى بن هشام) وراوي مقامات الحريري هو (الحارث بن همام) والناظر في المقامة يلاحظ من الوهلة الأولى أن هناك راويين؛ الأول مستتر لا يحضر في النص سوى في شكل ضمير المتكلم الذي لا يضطلع في النص إلا بدور واحد هو نقل ما يروى له من أحداث ووقائع دون أن يكون ساهم فيها أو عاين أحداثها "الراوي الغائب"، أما الثاني فهو شخصية عيسى بن هشام التي لا تكتفي برواية الأحداث، وإنما تشارك فيها وتشهد وقوعها، فهي في معظم الأحيان جزء لا يتجزأ من الحكاية ذاتها، ولهذا سمّيناها "الراوي الشاهد". البطل: من تدور حوله المقامة، دائماً يكون الكاتب يتكرر في جميع المقامات تماماً كالراوي باسمه وشخصه، فبطل مقامات الهمداني هو (أبو الفتح الإسكندري)، وبطل مقامات الحريري هو (أبو زيد السروجي)، غالباً ما يكون شخصاً خيالياً مخادعاً ينتمي إلى شريحة المحتالين الأذكياء، ويظهر كشخص مسكين بائس. النكتة: هي الهدف الذي تدور حوله المقامة، فهي تسعى لتوضيح موضوعات مختلفة بشكل فكاهي؛ إذ تدور كل مقامة من المقامات على نكتة خاصة وفكرة معينة يراد إيصالها، وتكون فكرة مستحدثة، أو مُلحّة مستظرفة، وقد تستبطن فكراً جريئاً لا يدفع غالباً إلى تبنّي السلوك الإنساني الطبيعي، أو الحث على مكارم الأخلاق، وموضوعات المقامات تكون مختلفة، فمنها ما هو لغوي، أو أدبي، أو بلاغي، ومنها ما هو فقهي، أو حماسي أو فكاهي، ومنها ما هو خمري أو مجوني، بحيث تترادف المقامات في مواضيع مختلفة خالية من النسق والترتيب أو يكون ترتيبها غير ظاهر الترابط بوضوح، فكل مقامة تعتبر وحدة قصصية قائمة بنفسها تعتمد وحدة المكان غالباً، ويغلب المقامات عادة الفكاهة والملح النادرة. اما وظيفة المقامة فهي: الإمتاع التّعليم التّأمّل النّقد قال الراوي، بهذه العبارة كانت تبدأ أكثرية القصص العربية القديمة، فمنذ القدم استمتع العرب بالقصة، والرواية، والسرد، وعندما طال السرد وتعددت الروايات تحولت إلى مقامات ذاع صيتها وترافقت مع اسم "بديع الزمان الهمذاني"، أبو الفضل أحمد بن الحسين، وُلد في مدينة همذان، وهي مدينة جبلية في إيران سنة 969 م، لكنه من أصول عربية وقد تمكن بديع الزمان بفضل أصله العربي وموطنه الفارسي من امتلاك الثقافتين العربية والفارسية وتضلعه في آدابهما. أما لقب بديع الزمان فلا ندري إن كان من صنعه أم من صنع الثعالبي صاحب يتيمة الدهر الذي قال: هو بديع الزمان ومعجزة همذان. قال عنه أبو الحسن البيهقي كان بديع الزمان يحفظ خمسين بيتاً بسماع واحد، ويؤديها من أولها إلى آخرها، وينظر في كتاب نظراً خفيفاً ويحفظ أوراقاً ويؤديها من أولها إلى آخرها. وقال عنه الإمام محمد عبده عنه: فقد عرف الناظرون في كلام العرب، وشهد السالكون في مناهج الأدب، أن الشيخ أبا الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني قد طبّق الآفاق ذكره، وسار مثلاً بين الناس نظمه ونثره، فله الرسائل الرائقة والمقامات الفائقة والقصائد المؤنقة، وله المعاني العالية في العبارات الحالية والأساليب الساحرة للألفاظ الباهرة. من مقامات بديع الزمان الهمذاني كتب الهمذاني 400 مقامة لم يصل إلينا منها إلا 52، منها: المقامة الإبليسية، الأذربيجانية، الأصفهانية، البخارية، الجاحظية، الحلوانية، السارية، الساسانية، العراقية، المجاعية، المضيرية، المطلبية، الموصلية، الوعظية، المارستانية، ويبدو أن المقامات جاءت لتعبر عن صورة عصر مضطرب عاشه العرب في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ويظهر ذلك بوضوح عندما نتساءل عن سر تلون شخصية الإسكندري بطل مقامات الهمذاني، فهو مرة شحاذ، وأخرى أديب، ومرة ثالثة شخصية نافذة، كأن الهمذاني يتنقل بين طبقات المجتمع كافة؛ ليصور التحولات العنيفة التي شهدها ذلك العصر، وهو ما يظهر في المقامة "المضيرية" على سبيل المثال، عندما يحكي الهمذاني عن الإسكندري الفقير عند حصوله على حصير آل الفرات قائلاً: إن ذلك تحقق في وقت المصادرات، وزمن الغارات، وكنت أطلب مثله منذ الزمن الأطول فلا أجد، والدهر حُبلى ليس يدري ما يلد. وفي المقامة البغدادية قال: حَدَّثَنَا عِيَسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: اشْتَهَيْتُ الأَزَاذَ، وأَنَا بِبَغْدَاذَ، وَلَيِسَ مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ، فَخَرْجْتُ أَنْتَهِزُ مَحَالَّهُ حَتَّى أَحَلَّنِي الكَرْخَ، فَإِذَا أَنَا بِسَوادِيٍّ يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ، وَيَطَرِّفُ بِالعَقْدِ إِزَارَهُ، فَقُلْتُ: ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ وَأَيْنَ نَزَلْتَ؟ وَمَتَى وَافَيْتَ؟ وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ، فَقَالَ السَّوادِيُّ: لَسْتُ بِأَبِي زَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ، وَأَبْعَدَ النِّسْيانَ، أَنْسَانِيكَ طُولُ العَهْدِ، وَاتْصَالُ البُعْدِ، فَكَيْفَ حَالُ أَبِيكَ ؟ أَشَابٌ كَعَهْدي، أَمْ شَابَ بَعْدِي؟ فَقَالَ: َقدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَى دِمْنَتِهِ، (أي أنه مات منذ زمن ونبتت الزهور على قبره) أَرْجُو أَنْ يُصَيِّرَهُ اللهُ إِلَى جَنَّتِهِ.. وَمَدَدْتُ يَدَ البِدَارِ، إِلي الصِدَارِ، أُرِيدُ تَمْزِيقَهُ، فَقَبَضَ السَّوادِيُّ عَلى خَصْرِي بِجِمُعْهِ، وهكذا نصب عيسى بن هشام كميناً للسوادي فقاده هذا إلى السوق ليشتري له كباباً ثم حلوى ثم ماء مثلجاً، ثم انسحب الراوي عن المشهد عند الشواء؛ ليترك السوادي إلى مصيره مع الشواء، وهكذا تتسلسل المقالب داخل المقامات وتغدو للمقامة معنى أكثر تأثيراً. ثم ينتقل الهمذاني إلى عالم الخرافة واعتقاد العرب في مصاحبة الجن للشعراء، ففي المقامة "الإبليسية" يقول: حَدَّثَنْا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ إِبِلاً لِي، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهَا، فَحَلَلْتُ بِوادٍ خَضِر، فَإِذَا أَنْهَارٌ مُصَرَّدَةٌ، وَأَشْجَارٌ بَاسِقَةٌ، وَأَثْمَارٌ يَانِعَةٌ، وَأَزْهَارٌ مُنَوِّرَةٌ، وَأَنْمَاطٌ مَبْسُوطَةٌ، وَإِذَا شَيْخٌ جَالِسٌ، فَرَاعَنِي مِنْهُ مَا يَرُوعُ الوَحِيدَ مِنْ مِثْلِهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ؛ لنكتشف أن هذا الشيخ هو إبليس الذي ينشد لعيسى بن هشام قصيدة لجرير على أساس أنها من تأليفه هو، ثم ينشده أخرى لأبي نواس، وعندما يكشفه ابن هشام يغضب ثم يلقي عليه كلمات هي أشبه بالألغاز المرتبطة في الوعي الشعبي بالسحر، وعندما يتركه يلتقي بالإسكندري وعلى رأسه عمامة فيخبره الأخير أنه أخذها من الشيخ، إبليس، فيرد عليه ابن هشام: يا أبا الفتح شحذت على إبليس إنك شحاذ، هنا نستمتع بالمقامة التي تتقاطع فيها جماليات القصة والحكاية الشعبية والموعظة والأسطورة، كل ذلك مغلف بالخيال. وفي مقدمة المقامة الجاحظية: نلمح الحس الديني والأخلاقي: حدثنا عيسى بن هشام قال أثارتني ورفقة وليمة فأجبت إليها للحديث المأثور عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أُهدي إلي ذراع لقبلت، ووجهاً آخر تكشف عنه المقامات ويتمثل في التنقل والارتحال بين بلدان ومدن مختلفة، ففي المقامة "الفزارية" يقول الهمذاني على لسان عيسى بن هشام: "كنت في بعض بلاد فزارة"، وتبدأ المقامة "البصرية" بقول ابن هشام: "دخلت البصرة"، ويسرد في "القردية" بينا أنا بمدينة السلام قافلاً من البلد الحرام، لقد استفاد الهمذاني من كثرة رحلاته فيتنقل بسلاسة وبساطة داخل العالم الإسلامي الممتد والمنبسط أمام مغامرات ابن هشام والإسكندري، كما يقدم في المقامة الرستانية وهو السني الذهب حجاجاً في المذاهب الدينية فيسفه عقائد المعتزلة ويرد عليها بشدة وقسوة ويستشهد أثناء تنقلاته هذه بين ربوع الثقافة بالقرآن الكريم والحديث الشريف. وفي المقامة الخمرية يلعب أبو الفتح دور الإمام والناسك فيصلي بالناس ويدعوهم إلى اجتناب أُم الكبائر "الخمر. وفي المقامة القزوينية يتنكر في زي الغزاة المجاهدين، فيخطب في الناس ويحثهم على الروم، وفي المقامة القردية يلعب دور قرّاد برقص قرده ويضحك الناس، وفي المقامة الموصلية يلعب دور دجّال يدّعي إحياء الموتى وكشف الضر والبلاء، وفي المقامة القريضية يتخذ دور الأديب البارع الذي يحكم في الشعر وأصحابه، وفي المقامة المضيرية يبرع في وصف وليمة انتهت بما لم تحمد عقباه، أما في المقامة الدينارية فستضحك وتنبهر للكم الهائل من ألفاظ السخرية والهجاء. قرون مضت واللافت في هذا كله أن أدب المقامات كما كتبه الهمذاني، أدب معاصر لزمنه تناولت مواضيع مختلفة وقدّمت كماً من المعلومات لا تزال بيننا؛ لتتحول مع مرور الزمان إلى وثيقة تاريخية تصور جزءاً من حياة عصر الهمذاني آنذاك. ولتذكرنا بما كتبه الشاعر محمود درويش، مدافعاً عن الحكاية وأهميتها في حياة الشعوب والأمم: من يكتب حكايته يرث أرض الكلام. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :