محمد أمين| نشرت الهند في الصيف الماضي قوات؛ لمنع جيش التحرير الشعبي الصيني من بناء طريق على هضبة «دوكلام» بالقرب من الحدود المتنازع عليها بين بوتان والصين، والهند. وقفت القوات الهندية في طريق طواقم البناء، وعرقلت عملهم، بل أحيانا كانت تتصادم مع القوات الصينية. وعلى الرغم من التحذيرات الصارمة والمتزايدة من بكين، بما في ذلك التهديد بـ «مواجهة شاملة»، فإن الهنود لم يتراجعوا. وبعد أزمة استمرت لشهرين تقريبا، انسحب الجانبان وأوقف الجيش الصيني خططه لبناء الطريق، على الرغم من تحذير الصين بأنها ستواصل «استيفاء حقوقها السيادية»، بنشر القوات والقيام بأعمال الدورية في المنطقة. لعل من المغري استبعاد هضبة «دوكلام»، المتنازع عليها باعتبارها سببا آخر للنزاع الحدودي الصيني ـــــ الهندي القائم منذ فترة طويلة. ولكن هذا سيكون خطأ. وقد تكون هذه المواجهة مؤشراً على حدوث تغييرات في الهند، وهي تغييرات يمكن أن تغيّر بشكل كبير هوية الهند الإستراتيجية. فنادرا ما سعت الهند ــــ على مدى تاريخها الذي يمتد إلى 70 عاما ــــ إلى استخدام القوة خارج حدودها. وحين فعلت ذلك، واجهت ـــــ عموما ــــ خصوما ضعفاء نسبيا، مثل نمور التاميل في سريلانكا في أواخر الثمانينات، ومنظمي الانقلاب في جزر المالديف عام 1988. وفي الحرب مع باكستان عام 1965، واجهت الهند خصماً قويا، ونفّذت هجمات قوية في عمق أراضي العدو، واقتربت من الوصول إلى مدينة لاهور الحدودية. ولكن الهند لم تسع إلى هذه الحرب التي بدأ عندما حاولت باكستان الاستيلاء على كشمير بقوات غير نظامية واخرى تقليدية. اما العملية العسكرية الأكثر طموحا في الهند فوقعت عام 1971، عندما شنّت حملة مدرعة واسعة النطاق على باكستان الشرقية، وقطعها الأجنحة الشرقية والغربية من باكستان والمساعدة في خلق دولة جديدة من بنغلادش. ولم تتصرّف الهند إلا بعد تدفّق لاجئين فرّوا من الحرب الأهلية الباكستانية إلى غرب البنغال. وحين عجزت عن استيعاب تدفق الوافدين الجدد، لم يكن أمامها خيار سوى مهاجمة باكستان الشرقية ووضع حد للأزمة. سجل عسكري متواضع وقد ساعد تواضع هذا السجل العسكري في خلق انطباع استراتيجي سلبي عن الهند، والتي ــــ على الرغم من قدراتها الاقتصادية والعسكرية الكبيرة ــــ تردّدت في استخدام القوة في أي شيء أكثر من الشرطة المحلية وعمليات مكافحة التمرّد. لقد برزت الهند كشريك محوري في الجهود الأميركية لتحقيق التوازن مع القوة الصينية الصاعدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وقد استثمرت واشنطن بشكل كبير في المساعدة على بناء القدرات الاستراتيجية للهند، من خلال مبيعات الأسلحة وتقاسم التكنولوجيا والمناورات العسكرية المشتركة وتعميق الشراكة الدبلوماسية. فالهند غير الراغبة في استخدام القوة خارج حدودها ستكون ذات فائدة محدودة لجهود تحقيق التوازن الإقليمي وخيارا، ليس مفضلا للولايات المتحدة لبناء شراكة قوية. وربما كان من السهل المبالغة في احتمال أن تكون الهند بلدا سلميا لدرجة السلبية. فسجلها الاستراتيجي أكثر تعقيدا مما يبدو على السطح. فقد خاضت الهند الحروب في الماضي ضد خصوم اقوياء، بما في ذلك القوات الصينية التي كانت متفوقة عليها عدديا في عام 1962، وباكستان الأفضل تسليحا، عام 1965، وباكستان التي تمتلك السلاح النووي عام 1999. وعلى الرغم من أن الهند لم تكن هي التي شنت هذه الحروب، ولم يتم تجاوز الحدود الدولية في كل هذه الحروب، فإنها انطوت على قتال لوقت طويل تكبّدت فيه الاطراف خسائر كبيرة في الأرواح والأموال. ولكن، الآن قد تكون لدى الهند رغبة متزايدة في استخدام القوة خارج حدود أراضيها. استفزاز صيني كانت أزمة دوكلام، التي نشرت الهند قواتها في بوتان ردا على الاستفزازات الصينية، جديرة بالملاحظة بوجه خاص في هذا الصدد. فما الذي دفع الهند إلى تبنّي سياسة مواجهة كهذه؟ الإجابات عن هذا السؤال متعددة. أولاً – إن الهند ملزمة بموجب معاهدة موقعة مع بوتان بأن تتعاون بشكل وثيق معها بشأن المسائل الاستراتيجية. ويفهم على نطاق واسع أن هذا التعاون ينطوي على التزام هندي بضمان أمن بوتان. وقد عارضت الحكومة البوتانية خطة بناء الطريق الصينية، ووصفتها بانها «انتهاك مباشر» للاتفاقيات الحدودية القائمة، ودعت الى العودة الى الوضع القائم. ثانياً – على الرغم من أن الصين لم تبن الطريق على الاراضي الهندية، فإن المشروع يهدّد أمن الهند. فهضاب دوكلام ليست فقط قريبة من الحدود الهندية، بل انها محاذية لممر سيليجوري المعروف بـ «رقبة الدجاجة»، الذي يربط قلب الهند مع مناطقها الشمالية الشرقية. ويبلغ عرض هذا الممر، في أضيق نقطة، حوالي 17 ميلا فقط. وفي حالة نشوب حرب، يمكن للجيش الصيني أن يفصل شمال شرق الهند عن بقية اجزاء البلاد، وهي المخاوف التي تهيمن على المخططين العسكريين في نيودلهي منذ زمن طويل. تحوّل واضح ثالثاً – يبدو أن حكومة رئيس الوزراء نارندرا مودي تؤمن أكثر من العديد من الحكومات الهندية السابقة بفائدة القوة في معالجة المخاوف الأمنية. فعلى سبيل المثال، في يونيو 2015، عبرت القوات الهندية الحدود إلى ميانمار وهاجمت مخيمات المتمرّدين المناهضين للهند. وبعد أكثر من عام بقليل، عبرت قوات الكوماندوز الهندية «خط السيطرة» الذي يفصل بين الهند وباكستان في إقليم كشمير المتنازع عليه، وهاجمت عددا من معسكرات تدريب الإرهابيين التي تدعمها باكستان. وعلى الرغم من أن الحكومات السابقة قامت بعمليات مماثلة، فإنها تجنّبت الحديث عن ذلك في العلن. ولكن في هذه الحالة، قدّم المسؤولون الهنود بعد ذلك تغطيات إعلامية مفصلة عن هذه الغارات. والواقع أن مودي، ذهب الى ما هو ابعد من ذلك، حين قال في خطاب علني له في نيويورك «عندما أجرت الهند ضربات جراحية، شهد العالم قوتنا وأدرك أن الهند تمارس ضبط النفس، ولكن يمكنها أن تظهر قوتها عند الحاجة». اي ان الحكومة الراهنة ليست فقط راغبة في الاعتراف بهذه العمليات، بل انها تسلّط عليها الضوء، وهذا يمثل تحوّلا واضحا في السياسات الهندية. وفي حالة الصين، على الرغم من الاشارات الودية الأولية التي بعث بها مودي عقب انتخابه، اعتمدت الهند موقفا أكثر حزما تجاه بيكين. وأوضحت للرئيس الصيني شي جين بينغ اثناء زيارته الرسمية الهند في عام 2014 أن دلهي ستبقى ثابتة في منطقة لاداخ في كشمير، حيث قام جيش التحرير الشعبي بإجراء عدد من عمليات البحث المحدودة. وبعد ذلك، عندما واجهت الهند أنشطة بناء الطريق الصينية في دوكلام، تحرّكت الهند بسرعة لمساعدة بوتان، ونشر قوات لمنع الصين من المزيد من التقدم. (وكانت الهند عام في ظل حكومة رئيس الوزراء مانموهان سينغ، قللت من اهمية التوغّلات الصينية داخل الأراضي الهندية في عام 2013). فورين بوليسي
مشاركة :