الفيلم الفرنسي "أنت بداخل رأسي" لقاء ثقافتين على أرض المغرب بقلم: سعد القرش

  • 1/16/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

المخرج الفرنسي ديمتري دي كليرك في فيلم “أنت بداخل رأسي”، وفيه تمضي الأحداث بنعومة، في الواقع أو في خيال بطلته الممثلة البلجيكية دلفين بافور التي يبدأ بها الفيلم وبها ينتهي أيضا. وكما ارتبط ظهورها في أول مشهد بموت رفيقها المجهول، فإن اختيارها البقاء مع بطل الفيلم، الممثل الصربي سفيتوزار كفيتكوفيتش، يقترن بولادته الجديدة، وقد شرع في إنهاء حياته انتحارا أو اكتئابا، عقابا لنفسه على اختلاق كذبة أدخلت المرأة إلى حياته وكادت الكذبة نفسها تدفعها إلى المغادرة إلى الأبد. في المشهد الأول تصطدم سيارة بالصخور في صحراء المغرب، وتجاهد امرأة شابة رشيقة القوام للخروج من السيارة المقلوبة، في إعيائها وإجهادها لا تنظر إلى قائد السيارة الذي توّفي، ولا يعنى به الفيلم الذي يتتبّع المرأة، وهي تهيم في الصحراء على غير هدى، ولا تشعر بسقوط الجاكيت عن فستانها الأحمر، وتمضي بعيدا إلى أن تصير نقطة معلقة في فضاء الرمال. لا شيء سوى الفراغ والعجز عن بلوغ مياه في بئر، وتصادف مرور “جاك”، المهندس المعماري المنطوي على ذاته، رأى الجاكيت الذي يدلّ على وجود إنسان في ذاك المكان النائي، ولمح الشبح البعيد غارقا في الأفق، فيسعى إلى المرأة ويحملها في سيارته إلى مستشفى، ويخبره الطبيب أنها لا تعرف من تكون، وقد نسيت اسمها، وربما لا تسترد ذاكرتها.الفيلم تجري وقائعه في المغرب، ففيه تلتقي ثقافتان من دون التقسيم الاستشراقي التقليدي الذي يعلي من عقلانية الغرب يسرّه الكلام، ويعود بها إلى بيته، ويتخلّص من فستانها، ويخفي أغراضها القليلة ومنها ساعة وبوصلة، ويتناول يدها قبل أن تفيق ويلبسها خاتما أوسع من إصبعها، ثم يخبرها أنهما تزوّجا قبل ست سنوات، وأن اسمها “كيتي”، وتجرّب المرأة نطق اسمها، تختبر مذاق الحروف غير مصدّقة ولا مستنكرة. هي مولود جديد، ذاكرة بيضاء تتعرّف على نفسها وعلى ما حولها. ينهض الفيلم على ثنائية الرجل والمرأة، مع منح أدوار قصيرة لآخرين، ويقتصد في الجمل الحوارية مستغنيا عنها بمشاهد بطيئة لهذا الخلاء الكوني الغامض، حيث تتعانق الصحراء والسماء في نسع صوفي. ومن صفرة الرمال تنتقل الكاميرا بتمهّل إلى بيت المهندس المنعزل والفقير في الأثاث، الخالي تقريبا من الحياة، كل شيء في البيت أبيض، الجدران والستائر والسلم وحمام السباحة، والمرأة المأخوذة بالشمس التي تغرق في هذه التفاصيل تتعرّف على المكان، وتردد “هذه غرفة، وهذا جدار، وهذا سلم، وهذا حمام سباحة”، وتصل إلى مرآة وترى نفسها، فتقول في شيء من الارتياب “وهذه كيتي”. المرأة لا تكذّب المهندس، وتسعى إلى أن تتلمّس هويتها، فتسأله عن تفاصيل تستعيد بها ملامحها، وهو مطمئن إلى أنه يشكّلها على هواه، ويؤسّس لها ذاكرة، ويقنعها بأنها قرّرت تأجيل فكرة الإنجاب، ويستعد لإقامة دائمة في البيت الذي ملأته الحيوية، وكان قد أعلن عن بيعه، ويأتيه رجل وامرأة لإتمام صفقة شراء البيت، فيخبرهما بأنه صرف النظر عن بيعه، ويبدي استعداده لتعويضهما ببناء بيت آخر. في الأثناء، كانت كيتي في حمام السباحة تتابع إشارات التفاوض ولا تسمع الحوار، وتسأله عن الرجل والمرأة فيكذب مرة ثانية، قائلا إنهما ضلا الطريق، أما هو فقد عثر على طريقه معها، وأحبّ البيت، وأعاد اكتشاف حبّه للحياة بجنون الشباب الذي ولّى، وهي فجرّت فيه طاقات يستعيدها بدهشة بدء ميلاد جديد، هو آدم عثر على حواء يخلقها كما يهوى. ورغم يقينه بمحو ذاكرتها، فهو يخشى مجهولا ما، ويقسم أنه يحبها “أحبك يا كيتي، مهما تكوني بالنسبة إليّ، أرجوك تذكري هذا”، ولكن السيناريو الذي كتبه مخرج الفيلم بمشاركة بيير بوردي وروزماري ريتشيو ينتقل إلى مشاهد أخرى تعزّز هذا التوتّر، حين نظنّ الرجل قد أوشك على مصارحتها، والاعتراف بالكذب طلبا للتسامح أو تمهيدا للفراق.الفيلم ينهض على ثنائية الرجل والمرأة، مع منح أدوار قصيرة لآخرين، ويقتصد في الجمل الحوارية مستغنيا عنها بمشاهد بطيئة لهذا الخلاء الكوني الغامض، حيث تتعانق الصحراء والسماء في نسع صوفي والفيلم تجري وقائعه في المغرب، ففيه تلتقي ثقافتان من دون التقسيم الاستشراقي التقليدي الذي يعلي من عقلانية الغرب، في مقابل روحانية الشرق وموروثاته، بل إن النافذة التي ستطلّ منها المرأة على حياتها السابقة، وتصرّ على معرفة هويتها المفقودة، تأتي من جملة عابرة يلقيها الشاب “عمر”. كانت المرأة الشابة التي لا يزال اسمها كيتي قد سمعت عبر مترجم قول العجوز أم عمر إن كل شيء مكتوب، ولا شيء يحدث لنا في الحياة مصادفة؛ فكل شيء بقدر، وحين يصل عمر لصيانة حمام السباحة يقول لها كلمتين تربكان كيانها، وتصيبانها بالجنون، فتقلب محتويات البيت بحثا عن أي شيء تعبر منه إلى ذاتها. قال لها وهو يرحّب بها كضيفة، قبل إصلاح حمام السباحة “يسعدني رؤيتك”، من الطبيعي أن ينطق بمثل هذا الترحيب من يدخل البيت للمرة الأولى، أو من يرحّب بزائر، وهو يخبرها أنه يعمل بالمكان منذ أربع سنوات، فتصاب بالدهشة وتسأله “ألم ترني هنا من قبل؟”، فيجيب بالنفي. تعي المرأة أن جاك ليس شريرا، ولكنه أناني يمارس الكذب من أجل استبقائها مدّعيا أنها زوجته، ولا يحتمل أن تفارقه، وفي ثورتها لا تعثر إلاّ على البوصلة والساعة، وتقرأ اسمها الحقيقي مكتوبا بحروف غائرة “دافني”، فتترك البيت، وتعرف من شاب مغربي أنهم لم يعثروا عليها بعد الحادث الذي توّفي فيه صديقها السائح الأميركي. وكأن المرأة التي لا تشعر بالحقد على جاك قد آمنت بقول المغربية العجوز إن كلّ ما يحدث لنا مكتوب، وتثق بأن ما جرى لم يكن عبثا، وإنما لحكمة لا تعلمها، فتتخلّص من حقيبتها وكلّ ما يصلها بما قبل رؤية منقذها، وبإرادتها واختيارها الحرّ تقرّر الرجوع إلى جاك الذي لم يحتمل قسوة رحيلها، ولجأ إلى الشراب فسقط في حمام السباحة ومياهه الضحلة وأصيب رأسه. وتساعده على النهوض وتطبّبه، تنقذه كما أنقذها، وتعيد التعرّف على تفاصيل البيت كما في مشهد إفاقتها في بداية الفيلم، فهذه غرفة، وهذا جدار، وهذا سلم، وهذا حمام سباحة، وبقي أمر واحد، تبتسم وهي تبلغ به جاك، وتدعوه إلى استرداد عافيته، لكي يحقّقا معا ذلك المشروع المؤجّل، إنجاب طفل. ينطلق فيلم “أنت بداخل رأسي” من تصوّرات فلسفية، تتوارى بعيدا أمام فيض من مشاعر لا تدع المشاهد ينصرف عن الدراما، عبر مشاهد تحنو على البشر، فتنجو حواراتهم من الخطابة، ولا تميل إلى التراشق بنظريات ومقولات الهوية الأصلية والهويات المكتسبة، فالظاهرة البشرية أكثر تعقيدا من هذا التبسيط، حتى أنّنا لم نكره البطل الكاذب، وإنما تعاطفنا معه بالقدر الذي أحببنا فيه المرأة، أيا كان اسمها، كيتي أو دافني، فالأهم أنها اختارت وأحبّت، وقرّرت أن تهب آدم طفلا.

مشاركة :