الواقع - في رأيي - مجموعة افتراضات في ذهن كل إنسان فرد أو جماعة بشرية! كل فرد أو جماعة أو شعب على وجه الأرض له واقع يراه وحده، فهو الذي يحدد ما الشيء الواقعي من غير الواقعي، وهو الذي يحدد المستحيلات والممكنات. الواقع يفاجئنا بقصص نجاح في شتى بقاع الأرض، بعض أبطالها ولدوا بإعاقات ذهنية أو جسدية، أو بعض الفقراء وأصحاب الظروف الصعبة الذين تغلبوا على تلك الظروف وحصلوا أعلى الدرجات العلمية برغم عدم توفر أي حد أدنى من مقومات النجاح... ونستمر حتى نصل إلى شعوب تمكنت من الحصول على استقلالها أو الانتصار في الحروب، أو الانتصار في معارك التنمية... برغم المعوقات وتكالب الأمم عليها. وبالتالي... لن يجدينا أن نقول: "الواقع يفرض علينا كذا"؛ لأن الواقع ليس أكثر من مجموع افتراضات الفرد والجماعة "وهي أمور خابت أمام أعيننا آلاف المرات". كان ذلك رأيي دائما، وازداد يقيني به خلال أعوام الثورة. في زمان ما قبل الثورة، كنت أتحدث كثيرا مع الأصدقاء "الواقعيين"، وكانوا يقولون لي ما خلاصته أن السيد جمال، ابن الرئيس المخلوع مبارك، "واقع"، وقدومه للرئاسة لا رادّ له، وتعاملنا مع هذا الواقع - يقصدون الانحناء له وهو يعبر على سجادة حمراء إلى سدة الرئاسة - لا بد أن يكون حكيما. كنت أقول إنني أتعامل مع وجود هذا "الفسل" بحكمة، لذلك أقاوم مشروع التوريث، وكان ذلك منتهى الواقعية (في رأيي طبعا)، فالمقاومة (بشروط دراسة الممكنات وحساب المخاطرات) عمل واقعي... أما السجود لمن يظن نفسه ربا فوق الناس... فهو تعامل غير واقعي بالمرة، بل هو محاولة لنزع أسلحة واقعية يملكها الناس في أيديهم ولكنهم لا يلقون لها بالا، بسبب حجب تعميهم عن رؤية كثير من الحقائق. لا أبالغ إذا قلت إن غالبية المصريين والعرب كان رأيهم في موضوع التوريث في مصر يشابه رأي أصدقائي الذين تحدث عنهم، وكانوا يرون ذلك أمرا "واقعيا" جدا. حين نزل الناس إلى ميادين التحرير في ثورة الخامس والعشرين من يناير ظلت نداءات الواقعيين تتعالى من هؤلاء الجالسين خارج الميدان إلى أهل الميدان... كونوا واقعيين (مثلنا)! ولو استجاب أهل الميدان لتلك النداءات لكانت العواقب وخيمة، ونحمد الله أن واقعية أهل الميادين كانت بهذا الطموح. يصوغ البعض حكما خادعة بنية حسنة، ثم يرددها قليلو الزاد في السياسة والتاريخ، حتى تصبح وكأنها مُسلّمة لا يتطرق لها شك... وإذا ناقشتهم قيل لك "هذا هو الواقع"! يقول هؤلاء: "لا يمكن لمن شارك في الانقلاب أن يشارك في الثورة"، ويقولون: "لا يمكن لمن جاء بالدبابة أن يرحل بالصندوق"، ويقولون: "لا يمكن هزيمة الأنظمة المستبدة سلميا"، ويستمرون في مزاعم لا أول لها ولا آخر... وهي في الحقيقة مجموعة من الافتراضات التي يرون بها واقعهم، ومن شدة ظلام اللحظة، وقلة الزاد من التاريخ، وضعف المعرفة بتجارب الثورات... يظنون أنها حقائق لا تقبل النقاش. والحقيقة أن صياغتهم لهذه "الحكم" هي نوع من أنواع إعادة صياغة الواقع، وبرمجة العقل الباطن للجماهير، بحيث يستسلم الجمهور لواقع افتراضي غير حقيقي، فيكتفي غالبية هؤلاء بترديد الشتائم وبطقوس التذمر على الفيس بوك... ويتناسون قدرات الأمة على إسقاط الأنظمة سلميا، مهما تدججت تلك الأنظمة بالسلاح. في الأسبوع الماضي خرجت تسريبات من يسمي نفسه أشرف الخولي (ضابط جهاز المخابرات المصري)؛ وهو يوجه مجموعة من المخبرين المفروضين على الشاشات كإعلاميين بقوة السلاح، وهم يحتلون أماكن الإعلاميين المسجونيين أو المنفيين. مجرد خروج التسريب يدل على أن نظرتنا للواقع فيها كثير من الخلل، فهذه التسريبات وما سبقها من تسريبات من مكتب وزير الدفاع المنقلب؛ كلها تدل على أن سيطرة نظام الانقلاب على الدولة المصرية ليست حقيقة مُسلّمة، كما يحب البعض أن يصوّر لنا (وكما قلنا مرات ومرات). ويدل على أن هوامش الحركة، وفرص استثمار خلافات العصابة، وفرص حشد الناس في أي عمل يؤدي إلى تغيير حقيقي في نهاية المطاف... أمر ممكن (بشروط كثيرة). إن المشكلة الحقيقية ليست في عدم وجود مرشح رئاسي، وليست في ضعف حراك الشارع، وليست في ضعف مواردنا المالية، وليست في امتلاء المعتقلات، وازدحام المنافي، وليست في كل ما نتوهمه في "الواقع" من نقاط قوة لعصابة الحكم، ونقاط ضعف في معسكر الثورة... بل الحقيقة التي تتأكد عبر الأحداث هي أننا ضعفاء لأننا متفرقون، ومهزومون لأننا لم نتفق على أن ننتصر، ومتراجعون لأننا قررنا أن نستحضر ما يفرقنا لا ما يجمعنا. لقد تمكنت بعض الشعوب من الانتصار بالصندوق على انقلابات عسكرية جاءت بالدبابة، وتمكنت شعوب أخرى من هزيمة أنظمة مدججة بالسلاح وبالتأييد الدولي؛ بمقاومة منظمة سلميا، وتمكنت شعوب من تغيير أنظمتها المستبدة برغم خلافات النخب بأن اتفقت تلك النخب على حد أدنى من المشترك الوطني، فسارت من خلفها الجماهير. أما نحن... فما زلنا نحاول استحضار كل خلافاتنا التي حدثت... خلافاتنا من الخمسينات إلى ما بعد انقلاب 2013 ما زالت حاضرة وكأنها حدثت اليوم، وهو ما ينبئ عن انخفاض في مستوى المسؤولية الوطنية، وارتفاع منسوب الأنا الشخصية. أختم مقالتي بتعليقين... الأول: ترشح الفريق سامي عنان لانتخابات رئاسة الجمهورية في مصر حدث شديد الأهمية، ومن الممكن أن يؤدي إلى مفاجآت كبيرة (خصوصا إذا دخل السباق الرئاسي بالفعل)، ولكن قراءة الكثيرين في معسكر الثورة لـ"الواقع" قد تمنعنا من التعامل مع هذا الواقع، والاشتباك معه، وبالتالي... ستمنعنا من تغييره. كما أن قراءة ما يسمى بالدولة العميقة ومؤسسات القوة في مصر قد تقع في الخطأ نفسه، وأظنها ستعجز عن التخلي عن أوهام القوة المطلقة، وعن التعامل "بواقعية" مع هذا المرشح. ولن يجدي النصح ممن هم مثلي ولا من سواي، إذ من الواضح أننا أمام قيادات لن تستمع لأحد، وغالبية قيادات هذه المؤسسات تسير في طريق تكلفة الانسحاب منه أكبر من تكلفة الاستمرار فيه، وهو ما سيؤدي إلى كوارث كبرى. ويبدو أن مؤسسات القوة تلك لن تكون طرفا في تجنيب البلاد هذه الكوارث، بعد أن فعلت ما فعلت خلال الأعوام الخمسة الماضية. وإذا كان لي أن أنصح الفريق سامي عنان نفسه... فإني أنصحه نصيحتين... الأولى: أن يتكلم، وأن يصدر البيان المتوقع منه في هذه اللحظة، وأن يعلم أن الزمن تغير، وأنه دون التزامات حقيقية أمام الناس لن يكون له ظهير شعبي، وهو دون هذا الظهير لا قيمة له! أما النصيحة الثانية... فهي أن يقرأ سيرة حياة السيدة "بيناظير بوتو" - من أولها إلى آخرها - قراءة دقيقة واعية! أما التعليق الثاني: فهو بشأن قرصنة موقعي على الشبكة العنكبوتية، وما نتج عنه من الاستيلاء على حسابي على موقع تويتر... أشكر كل من تضامن معي واستنكر هذا العمل التافه الحقير، وأشكر كل من عرض خدماته لاستعادة الموقع والحساب... العمل جارٍ لتدارك الأمر، وأتمنى أن تكلل الجهود بالنجاح. أقول لمن قام بهذا الأمر وللدول التافهة التي تمول هذه الأعمال الإجرامية الصبيانية... لنا لقاء قريب في جولة أخرى... ولسان الشاعر أمضى من أن يسكته أغوات مأجورونينتصرون على أعدائهم في أفلام الكارتون، ويواجهون معارضيهم بقراصنة الإنترنت المأجورين... ما أضعف باطلكم أمام قوة حقنا!
مشاركة :