الفن التشكيلي والطفولة... رحلة عبر الزمن

  • 1/17/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

هناك جانب من علاقة الفن بالمجتمع هو التأريخ. أعني الفن كوسيلة للتأريخ للتغيرات التي تحدث في المجتمع. يعطي الإبداع الفني فكرة عن الاهتمامات المتنوعة في كل عصر. لاحظتُ ذلك مثلاً وأنا أتتبع تصوير الفنانين للأطفال. سنكتشف أن الفن لم يعرف لقرون عدة طفلاً سوى المسيح قبل أن يدرك الفنانون أطفالاً من الواقع. أخذت نظرتهم إلى الطفل تتغير مع كل عصر تبعاً للتغيرات الاجتماعية ووفقاً لنظرة المجتمع إلى الطفل، حتى تحوّل الطفل نفسه إلى فنان حر. تحقيق هذه الحرية احتاج إلى قرون من التطور الاجتماعي وأجيال عدة من الفنانين. القصة تبدأ في العصور الوسطى مع رسم المسيح الرضيع الذي لا يبدو كمولود جديد. هناك شيء ناضج في سلوكه. لم يكن الرسامون في العصور الوسطى يلقون بالاً للتجسيد الطبيعي. ثم ظهرت حداثة مدهشة في لوحة «العذراء والطفل-» 1455 للفنان جون فوكيه. ألهمت الألوان الزاهية التي تتخلل نوافذ الكنيسة القوطية الرسامَ لاستخدام اللونين الأحمر لملائكة الكروبيم والأزرق لملائكة السيرافيم. عاش الأطفال في العصور الوسطى وعملوا كالكبار. قبل نهاية القرن الخامس عشر رسم ألبرشت دورر في عمر الثالثة عشرة لوحة لنفسه. كانت خطوطها دقيقة وصحيحة وكانت تلك بداية تصوير الأطفال في شكل حقيقي. جاء هذا الإنجاز الفني على يد طفل وذلك أمر مدهش! لم يتوقف دور «دورر» عند هذا بل شارك كرجل مشاركة كبيرة في هذا التطور ونشر دراسة تتعلق بالتفاصيل التشريحية للطفل. بدأ الرسامون في تصوير الأطفال الذين يبدون بالفعل أطفالاً. ولد آنذاك نوع جديد من الطموح الأسري للعائلات المالكة في أوروبا، فكانت تكلف المصورين برسم أولياء العهد. هكذا بدأ عهد رسم أطفال الملوك. كان لويس الرابع عشر عام 1640 طفلاً في الثانية من عمره عندما ظهرت له لوحة بالملابس الملكية. كان يحمل في يده غصن نرجس بري وكأنه صولجان يبشر بتوليه الملك. أصبحت تقنيات الرسم وقتها أكثر دقة فبدا حاكم فرنسا المستقبلي فعلاً كطفل في عامه الثاني. كان الناس في القرن الثامن عشر يموتون مبكرين ولم يكن كثير من الأطفال يعرفون أجدادهم وأحياناً أمهاتهم اللواتي يمتن أثناء الوضع. لذا اهتم الأرستقراطيون بتصوير أبنائهم. بدأ فجر اللوحات العائلية التي أخذت تجمع أفراد العائلة في غرفة واحدة. عُين أنطوني فان دايك رساماً للبلاط الإنكليزي ورسم لوحة «الأبناء الخمسة الكبار لتشارلز الأول» 1637. الصبي الذي سيحمل اسم السلالة هو محور اللوحة ويرتدي الأحمر بالكامل. تم التركيز على قوته من خلال سيطرته على كلب ضخم. أحدث رسام بلاط آخر في إسبانيا، دييغو فيلاسكيز، ثورة باستخدامه للسمات المميزة للجنسين تبدّت في لوحته «وصيفات الشرف» (1656). في الوسط طفلة ذات خمس سنوات هي الطفلة الوحيدة للملك فيليب الرابع وزوجته الثانية، تظهرها اللوحة بصورة تؤكد قدرتها على أداء واجباتها كملكة مستقبلاً. وصيفات الشرف هن بنات أسر أرستقراطية. كرمز لسلطة الطفلة تظهر محاطة بحاشية كبيرة؛ فيما يبدو والداها في صورة منعكسة على مرآة في خلفية وسط اللوحة. ظهرت في النصف الثاني من القرن 18 أفكار تتعلق بالطفولة ألهمت أعمال مفكرين وفلاسفة مثل روسو في مقالته عن التعليم، ولاحقاً غوته وكتاباته عن التربية الفاضلة. أصبح الطفل كائناً مستقلاً له مشاعره الخاصة ويتعيّن على الوالدين توفير تربية وتعليم جيدين له. بدأ الرسامون في مطلع القرن التاسع عشر في التحرر من صالونات الأرستقراطية والبرجوازية. دخل طفل جديد عالم الفن هو الطفل المحروم من الأوساط الشعبية. كانت لوحة «عمال المناجم واللعب» للفنان هنري باركر أول لوحة إنكليزية تصف أوضاع العاملين في المناجم. المفاجئ فيها هو اللعب الذي يجسد احتياجاً طفولياً حتى في ظل أصعب الظروف. كان الفنان مييه في فرنسا الواعية طبقياً هو من رفع مكانة أطفال الفلاحين. رسم «الفلاحة تطعم صغارها» 1860 يظهر فيها الأب في الخلفية وهو يعمل في الحقل لكن التركيز منصب على الأطفال. واجهت أوروبا في القرن التاسع عشر المجاعات وموجات الهجرة إلى المدن. كانت لندن مدينة الفقر والحرمان ولم يكن لدى المشرّدين والأيتام خيار سوى الأعمال الوضيعة، وبات أطفال الشوارع موضوعاً للفن. رسم الفرنسي جيل باستيان لوباج صورة الطفلة بائعة الورد في لندن. ترمز الأزهار لجمالها وهناك رجل مجهول يقف في الخلفية يراقبها. في فرنسا كانت ثورة الفقراء تلوح في الأفق. رسم ديلاكروا «الحرية تقود الشعب» 1830 وفيها نوع جديد من الأطفال في الفن. لم يعد الطفل وريثاً ملكياً أو ابن أرستقراطية ولم يعد بائساً أيضاً بل جندياً. يتجه المقاتلون في اللوحة مباشرة نحو المشاهد ما يؤكد قوة هذه اللحظة. في قمة الشكل الهرمي ترفع المرأة الشابة رمز الحرية علم الجمهورية. بين الشخصيات الرئيسة طفلان من الشارع أحدهما أقل حضوراً إلى اليسار يتشبث بحجارة، فيما يلوح الطفل الآخر الأوضح بمسدسين ويحمل كيس رصاصات لا يتناسب مع حجمه، لكنه يتقدم مباشرة نحو المشاهد وذراعه مرفوعة استعداداً للقتال. بعد بضع سنوات منح فيكتور هوغو هذا الطفل اسماً في روايته «البؤساء» هو «غافروش». انتشر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هذا النمط الجديد من الأطفال في أعمال فلاسفة وكتاب وفنانين في أوروبا. درس مانيه بالتفصيل نظرة الطفل الجندي في لوحته «عازف الناي» 1866. تبدو عينا الطفل تائهتين بعض الشيء وهو أمر غير مريح للمشاهد. نظرة لا تشبه ما نتوقعه من تعبيرات في وجه طفل بل تنم عن وحدة ومعاناة تحت زيه وفي انضباطه العسكري. يبدو وكأنه مسلوب الطفولة. عام 1882 وتحت تأثير الاستشراق رسم رينوار «الطفلة والطائر». يبعث ثوب الطفلة الجزائري والوضعية غير التقليدية واستخدام اللون الأزرق الموشح بالأحمر والبرتقالي على السعادة التي كانت هدف رينوار. كان يقول: اللوحة يجب أن تكون شيئاً مفرحاً ومرحاً وجميلاً. لم تعد الطفولة موضوعاً حزيناً بل ركّز الرسامون الانطباعيون على طبيعة الأطفال المرحة. انتجت بيرت موريزو سلسلة من اللوحات لابنتها جولي في مراحل طفولتها. ربما حظيت جولي بأكبر عدد من اللوحات في تاريخ الفن الفرنسي. في إحداها تظهرها مع مربيتها وبدلاً من عرض وجهها رسمتها والدتها من الخلف. كانت هذه طريقة خيالية عام 1883 لتحرير صورة العائلة من قيودها الرسمية. بدأ رسم الأطفال بتعبيراتهم ومشاعرهم الخاصة مثلما ظهر في لوحات الرسامة الأميركية الانطباعية ماري كاسات، وكانت تسعى هي الأخرى إلى تصوير الروابط العائلية. بدأ تحرير الطفل الحقيقي عام 1899 على يد فيليكس باليتون في لوحته الرمزية «الكرة»: طفل يطارد كرة حمراء في حديقة، هذا مشهد مألوف بالطبع، لكن اللوحة ترسل رسالة مهمة فالطفل يجري من الظل إلى النور وفي سعيه الكبير إلى الحرية يسير نحو مصيره مبتعداً عن السيدتين في الخلفية. لم يعد في عالم الطفل لوجود الكبار أهمية كبرى. وحّد جوستاف كليمنت عام 1905 ثلاثة أجيال في لوحته «الأعمار الثلاثة للمرأة»: وجه المرأة العجوز المخفي ووقفتها الحزينة وتعبيراتها المأساوية تذكرنا بأن الطفل كائن يولد وينمو ثم يذبل. بحلول القرن العشرين نال الأطفال حريتهم في الفن فيما كان الفنانون يبحثون عن حريتهم الشخصية. استلهم بابلو بيكاسو وخوان ميرو وبول كلي وغيرهم من رسومات الأطفال غير المتقنة أعمالاً فنية لهم. خلال استكشاف بيكاسو أعمال الطفولة رسم ابنته مايا وهي تلعب بدمية في لوحته «مايا مع الدمية « 1938. كان بيكاسو يسعى لمنح الطفل الحرية وقال يوماً: «احتجت لأربع سنوات لأتمكن من الرسم مثل رافاييل لكني احتجت عمراً بأكمله لأرسم كطفل». بسّط كلي شكل الطفل في لوحته «تمثال نصفي لطفل» 1933: دائرة للرأس ودائرتان للعينين وعلامة = للفم. هذا يذكرنا بشكل الفن البدائي لرسم الإنسان. رأينا الإسباني خوان ميرو يستخدم مواصفات رسومات الأطفال: العفوية والخطوط المرسومة بشكل غير مصقول. بدأ ميرو نفسه في الرسم طفلاً في الثامنة من عمره وكان في عمر الخمسين تقريباً عندما رسم لوحة «الأم والطفل» على طريقة رسومات الأطفال، لكن ليس كما يرسمها طفل بالطبع. عزّز ميرو هذا التوجه الجديد في لوحته «الشقراء الصغيرة في حديقة الألعاب» 1950: ملامح الطفلة مبسطة جداً وهي ولعبتها كيان واحد. عام 1961 رسم جون ديبوفيه كولاجاً كأنه مصنوع بيد طفل: «أنف الجزر» من أربعة ألوان فقط وأشكال محدودة يسخر فيه من التقاليد الفنية. بعد ثماني سنوات رسم بيكاسو «الرسام والطفل» على طريقة الأطفال. لم يصبح الطفل فناناً بل عاد بيكاسو نفسه ليصبح طفلاً. إنها بورتريه مزدوج لفنان وطفل تمثل ذروة تطور طويل في العلاقة بين الفن والطفولة بعد أن تحررا.

مشاركة :