المعالجات والمقاربات التي تصدّت لحركات الاحتجاج الشعبي في العالم العربي كانت متباينة، وتختلف باختلاف هوامش الحرية المعطاة لها بين بلد وآخر.العرب حكيم مرزوقي [نُشر في 2018/01/17، العدد: 10872، ص(13)]قطع الطريق على الديمقراطية “لست ضد الاحتجاجات، بدليل أني أدعو لوقفة احتجاجية ضد الاحتياجات”.. إنها الطريقة الوحيدة التي يمكن للمرء فيها أن يقنع ذوي العقول التي تسير في اتجاه واحد، وتتهم كل من يدعو لوقف الاحتجاجات العشوائية بالدفاع عن الأنظمة الفاسدة. الوقفات الاحتجاجية في بلد حديث العهد بالديمقراطية، تصبح غاية في حد ذاتها، وليست رسالة مطلبية توجه إلى الحكومة أو المؤسسة الاقتصادية المعنية بأسلوب سلمي في أمر واضح ومحدد بغية إيجاد الحلول المناسبة، وبطريقة منطقية، شفافة وعادلة. هذه الحركات الاحتجاجية في الكثير من البلاد ذات الهامش الديمقراطي والنفس الليبرالي، أمست جنة للصوص والمخربين، وجناحا يختفي تحته المتطرفون والتكفيريون والإرهابيون، لذلك وجب النظر إليها بعين الحيطة والحذر، بدليل أن “محتجين” من تونس، يخرجون في الليل ويمارسون أبشع “احتجاجاتهم” من سرقة ونهب، وهم في بلد يسمح فيه القانون بالتظاهر السلمي في وضح النهار وتحت رعاية رجال الأمن. ما شهدته وتشهده بلدان عربية كثيرة، وبدرجات متباينة، من أعمال حرق ونهب للممتلكات الخاصة والعامة، ينم عن ثقافة احتجاجية مريضة، تحكمها غرائز عدائية وعقليات ثأرية، وتغذيها أحقاد طبقية وعصبيات مناطقية وطائفية ومذهبية. المعالجات والمقاربات التي تصدّت لحركات الاحتجاج الشعبي في العالم العربي كانت متباينة هي بدورها، وتختلف باختلاف هوامش الحرية المعطاة لها بين بلد وآخر، وكذلك درجات الوعي ومدى تمثل السلوك السلمي والحضاري لدى جمهور المحتجين، فالفارق واضح، وبالتأكيد، بين من يقف خلف يافطة تدعو لتحسين الأجور أو للمساواة أو لتطبيق القانون، وبين من يندسّ وسط حشود المظاهرين للتحرش الجنسي أو السرقة أو ممارسة العنف ورفع شعارات التطرف والكراهية.الاحتجاجات العشوائية ضد الوضع الاقتصادي في الأمس القريب، هي نفسها سبب الوضع الاقتصادي الذي نحتج عليه اليوم، فكيف نحل هذه المعادلة المتاهة العقلية الاحتجاجية مبنية في مجملها على الاتكالية وغياب الوعي النقابي الذي يفرّق بين العمل المطلبي وبين العمل السياسي. وهذا الخلط من شأنه أن يفرز تداخلا بين الشعارات المرفوعة وانزياحات نحو مطالب فئوية ضيّقة وغير مبررة قانونيا، مما يعطي الذريعة والمبرر للسلطات التنفيذية بمنعها وتفريقها بل وباعتقال المحتجين أنفسهم والزج بهم في السجون. إن الأشكال الاحتجاجية، وبهذه الصورة القاتمة والمفزعة التي شاهدناها في الكثير من الضواحي والبلدات والمدن التونسية، مثلا، وفي الأيام الأخيرة، هي خطر على ثقافة الاحتجاج السلمي نفسها، ذلك أنها تولد إحساسا بالاشمئزاز والنفور بل وتولّد تعاطفا ضمنيا مع الطرف الذي خرجت هذه الجماعات للاحتجاج ضده كما تدّعي. صار حال المؤمن في الأمس بجدوى وفاعلية الاحتجاجات السلمية يقول اليوم في إحباط شديد بعد ما رآه من أعمال عنف ونهب وتدمير “لا أمل في يوم كنا نتطلع فيه إلى ديمقراطية تسمح بالتظاهر السلمي وسط مناخات تعددية كما هو الحال في المجتمعات الغربية.. سأختار إذن الأمن والأمان على حرية الفوضى والنهب والسرقة”. كيف يمكن للمرء أن يساند احتجاجا يضم داخله “احتجاجات” أخرى، تحرق وتنهب وتتعدى على ممتلكات الناس وتعتدي بالعنف المقصود على رجال الأمن الذين وجدوا بالأصل ـوحسب اللوائح القانونيةـ لحماية المحتجين وتأمين وصول مطالبهم للجهات المعنية. من يضمن لنا عدم اندساس عناصر إرهابية وسط هذه الجموع المنفلتة وأمام هذه الأوضاع الأمنية الهشة؟ ألم تعلّمنا التجربة في الأمس القريب ضرورة الحذر من جيوب التطرف والتكفير التي تسربت من خلال مسيرات تضامنية وحركات احتجاجية كما هو الحال في حادثة اقتحام السفارة الأميركية في تونس من طرف الإرهابي أبوعياض سنة 2012 أثناء حكم حركة النهضة في تونس. ويذكر أن الحادثة قد شارك فيها أساسا عدد مما يسمى بروابط حماية الثورة ومن أتباع حزب النهضة المتماهين مع “أنصار الشريعة” الناشط بقوة آنذاك في تونس.. وعدت الآن الإدارة الأميركية بإعادة التحقيق فيها وستشمل إعادة البحث عددا من القادة الأمنيين الذين أظهروا تراخيا في منع المداهمين من اقتحام السفارة وإشعال النار فيها. الاحتجاجات ضد الوضع الاقتصادي في الأمس القريب، هي نفسها سبب الوضع الاقتصادي الذي نحتج عليه اليوم، فكيف نحل هذه المعادلة المتاهة، إذ لا يمكن أن ننكر بأن الأزمة الخانقة التي تتخبط فيها تونس مثلا، ومنذ يناير 2011، جاءت بسبب كثرة الإضرابات التي أنهكت الاقتصاد. وفي هذا الصدد، أظهرت بيانات في تونس أن العشرات من المؤسسات الأجنبية أغلقت أبوابها بسبب حركات الإضراب العشوائية التي عطلت الإنتاج والتصدير.
مشاركة :