بين متعة العلم والجهل به!

  • 1/18/2018
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

إنها معضلة العلم: كيف يمضي الباحثون في تحقيق المستحيل مع تركهم مهام تبدو بسيطة دون إنجازها؟ ومثلما ذكر عالم الفلك مارتن ريز في مقال نشره منذ وقت قريب في مجلة «ذي أتلانتيك»، فإن العلماء بمقدورهم رصد اصطدام ثقبين أسودين على بعد مليارات السنوات الضوئية، بينما لا يعرفون حتى الآن سوى اليسير للغاية عن كيفية علاج البرد العادي.وقد أوعز ريز أحد الأسباب وراء ذلك إلى مسألة الحجم، ذلك أنه أشار إلى أن ظاهرة على المستوى الفلكي الضخم تتعلق بالنجوم، وأخرى على مستوى بالغ الضآلة تتعلق بالذرات تتحرك على نحو يمكن التنبؤ به، بينما التعقيد الشديد للعالم القائم بين هذين المستويين يجعلنا في حالة تخمين مستمر حول ماهية ما سيحدث اللحظة المقبلة. ولطالما كان الوضع على هذه الحال على مر التاريخ الإنساني، فقديماً قبل أن يدرك الناس وجود الجراثيم من الأساس، كان باستطاعتهم توقع حركة النجوم والكواكب والاعتماد عليها في الملاحة.ومع هذا، يبقى ذلك مجرد جزء من الصورة الكبيرة، ذلك أن بعض الأفكار المغلوطة الشائعة بإمكانها تشويه قدرتنا على تمييز المهام السهلة عن الأخرى الصعبة أو المستحيلة. في كثير من الحالات، يقلل الناس من صعوبة السيطرة على البيئة المحيطة حولنا. وجدير بالذكر هنا أن العلماء لاحظوا اصطدام ثقوب سوداء معاً عبر الموجات التي تحدث في الفضاء، لكنهم لم يسيطروا على الظاهرة.وفي الوقت الذي يعتبر فيه البرد العادي ظاهرة عادية، وتخضع الفيروسات لدراسة دقيقة، فإن السيطرة عليها ليست بالأمر الهين على الإطلاق. ورغم كل ما يتشدق به علماء الآثار حول كيف أنه منذ آلاف السنوات تمكن أجدادنا من «ترويض» و«السيطرة على» النار، فإننا لا نزال نقرأ لليوم أن حرائق غابات «خرجت عن نطاق السيطرة» في كاليفورنيا. في الواقع، لا تزال النار تثبت لنا من حين لآخر من منا لا تزال له اليد العليا.وقد طرحت لغز «البرد مقابل الثقب الأسود» على إدوارد تينير، المؤرخ لدى جامعة برنستون، الذي يحمل كتابه الجديد المقرر طرحه في الأسواق قريباً عنوان «معضلة الكفاءة: ما تعجز البيانات الكبرى عنه». وقد أعرب تينير عن اعتقاده بأن الناس غالباً ما يقللون من تقدير مدى عبقرية الطبيعة، ويفترضون خطأ أن أي ظاهرة طبيعية عادية من الممكن محاكاتها بسهولة من خلال التكنولوجيا.على سبيل المثال، بمجال الذكاء الاصطناعي تمكن الإنسان من ابتكار كومبيوترات تملك قدرات بشرية خارقة بمجال لعبة الشطرنج وألعاب أخرى، لكنه جابه صعوبة بالغة في إعادة إنتاج شيء يفعله الأطفال بسلاسة - التعامل مع غموض اللغة.وأضاف أنه في الوقت الذي تزداد فيه الكومبيوترات ذكاءً باستمرار، فإن من بين السبل البسيطة التي تعيننا على التمييز بينها وبين بني الإنسان أن نطلب منها تفسير معنى مثل شعبي. ويرى تينير أنه على الرغم من أن «الروبوتات» ربما تتمكن يوماً من قرض الشعر من خلال أسلوب التجربة والخطأ، فإنها ستبقى دائماً عاجزة عن تذوق الشعر على النحو الذي يفعله الإنسان.وربما يفسر هذا الميل نحو التقليل من قيمة إبداع وقوة العالم الطبيعي السبب وراء افتراض الناس أن التغلب على البرد أمر هين. ويظن كثيرون أنه إذا كان شيء بلا عقل مثل جهاز المناعة قادراً على قتل البرد، فكيف تعجز التكنولوجيا عن ذلك؟ بيد أن هذا المنطق يغفل مدى تعقيد نظام المناعة.ثمة عامل آخر يكمن وراء لغز «البرد مقابل الثقب الأسود»، مثلما علمت من جوشوا بلوتكين البروفسور في علم الأحياء بجامعة بنسلفانيا المتخصص في دراسة الفيروسات، ذلك أنه يرى أن الاختلاف بين الأمرين يكمن في أن رصد الثقب الأسود كان مشروعاً ومحدد الاتجاه، بينما لا يتوافر سبيل واضح نحو علاج البرد العادي. لقد علم الناس أن اصطدام الثقوب السوداء وعدد من الظواهر الأخرى المحددة تنتج موجة معينة من الطاقة يمكنهم رصدها، وذلك إذا ما نجحوا في بناء مجس على درجة كافية من الحساسية. وبمقدور علماء الفيزياء حساب مدى التقدم الذي يحرزونه على مر السنوات مع ازدياد المجسات التي يعتمدون عليها دقة وحساسية. وخلص بلوتكين من ذلك إلى أن الثقب الأسود مثل مشكلة منطقية.على النقيض نجد أن بعض أكبر الكشوفات في مجال الطب البيولوجي تحققت بمحض الصدفة - وكانت الصدفة هي من قادتنا نحو اكتشاف المضادات الحيوية. أما أحدث الأمثلة على هذا الصعيد فهي تكنولوجيا تعديل الجينات التي بدأت عندما عكف باحثون على دراسة كيف تحمي بكتيريا صنع الزبادي نفسها من الفيروسات التي تغزو البكتيريا.أما الدرس المستفاد مما سبق فهو أن المشروعات المنطقية ذات المسارات الواضحة قادرة على إنجاز أكبر وأهم الأهداف. ومع ذلك، يبقى جزء من متعة العلم مرتبطاً بذلك الجزء الكامن به الذي يتعذر التنبؤ به. والمؤكد أن إقرار كثير من مثل هذه المشروعات العلمية واضحة المعالم خلال عام 2018 قادر على أن يقدم لنا على الأقل بعض المفاجآت السارة.* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»

مشاركة :