تقية "الشيطان الأكبر": العداء الأميركي الإيراني ستار يخفي تفاهمات

  • 1/18/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

التوتر بين إيران والولايات المتحدة يطفو على السطح، فيما تجري في الكواليس مفاوضات وصفقات خفية بين النظام الإيراني والإدارات الأميركية المتعاقبة تعكس تفاهما مستمرا على عدم الصدام المباشر ووضع حدود وسقف للآليات التي يمكن استخدامها في التعبير عن الخلافات المزعومة بين الطرفين، بل إن إيران استنجدت بإسرائيل خلال حربها مع العراق. ووفقا لدراسة أجراها معهد تل أبيب لدراسات الأمن القومي، فقد زوّدت إسرائيل إيران بأسلحة بلغ مجموعها 500 مليون دولار في السنوات الثلاث الأولى من الحرب (1980-1988). ولعل أقرب وصف للعلاقة بين إيران وأميركا ما جاء على لسان المترجمة الإيرانية بنفشه كينوش، في مقال نشرته صحيفة الغارديان تحدثت فيه عما رأته وسمعته خلال عملها كمترجمة مع أربعة رؤساء إيرانيين، قالت فيه “عندما ننظر إلى موقف طهران من الولايات المتحدة، فإننا نجده أشبه بموقف الحبيب الذي يشتاق للعودة إلى حبيبه القديم. ففي الوقت الذي تعلن فيه طهران عن ازدرائها من واشنطن، إلا أننا نجدها تتوق مرة أخرى لأن تصبح شريكتها. وكما هو الحال في الكثير من الأحيان، هناك خط رفيع جدا يفصل بين الكراهية والحب”. وعلى سبيل المثال أدت أزمة الرهائن في عام 1979، عندما اقتحم الطلاب المتشددون السفارة الأميركية وقاموا باحتجاز الدبلوماسيين في إيران لمدة 444 يوما، إلى انهيار العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. ولكن وعلى الرغم من ذلك بدأ الجانبان في عقد المحادثات خلف الأبواب المغلقة من أجل حل تلك الأزمة. وحاول نظام الجمهورية الإسلامية بعد الإطاحة بالشاه فتح قنوات تواصل مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر وعقد الجانبان محادثات خلف الأبواب المغلقة رغم الخلاف العلني بين الطرفين الذي وصل إلى ذروته مع اندلاع أزمة الرهائن (4 نوفمبر 1979-20 يناير 1981) التي كانت سببا رئيسيا في عدم فوز كارتر بفترة رئاسية ثانية، رغم إنجازه البارز في فترته الأولى المتمثل في رعاية المفاوضات المصرية- الإسرائيلية التي انتهت بتوقيع معاهدة السلام في مارس 1979. وأشارت كتابات عديدة إلى أن الخميني رفض طلبا تقدم به بعض المقربين منه بتحويل السفارة الأميركية إلى مقر للحرس الثوري، باعتبار أن “الخلاف مع الولايات المتحدة لن يستمر ألف سنة”، في إشارة إلى أنه يعتبر أن قطع العلاقات مع واشنطن قرار مؤقت للتعاطي مع تطورات ظرفية لن تدوم إلى ما لا نهاية. ولم يكن احتلال السفارة الأميركية في طهران موضع توافق داخل النظام الإيراني، إذ أنه جاء كرد فعل من جانب بعض الأجنحة المتشددة التي سعت إلى عرقلة الجهود التي بذلها رئيس الوزراء آنذاك مهدي بازركان للانفتاح على واشنطن والتوصل إلى توافق بين إدارة كارتر والنظام الجديد في طهران. وتوجت جهود بازركان بتنظيم لقاء مع زبيجينيو بريجينسكي مستشار كارتر للأمن القومي خلال مشاركتهما في احتفالات الجزائر بعيدها الوطني في أول نوفمبر 1979، وقبيل ثلاثة أيام فقط من احتلال السفارة، حيث كان هناك انفتاح أميركي على دعم النظام الجديد وتقديم دعم عسكري له. وبدا أن ثمة اهتماما بالغا من جانب بازركان بالنتائج التي يمكن البناء عليها من خلال هذا اللقاء الذي ضم إلى جانبه كلا من إبراهيم يزدي وزير الخارجية ومصطفى شمران وزير الدفاع. ورغم التوتر الذي تصاعد عقب احتلال السفارة، إلا أن ذلك لم يمنع الطرفين من استمرار الحوار، بل إن ثمة مؤشرات عديدة تكشف أن إيران وفريق المرشح الرئاسي آنذاك رونالد ريغان حاولا استثمارها لتحقيق أهداف خاصة بكل منهما، أهمها تقليص حدة التوتر وتعزيز فرص ريغان في الفوز بالانتخابات. وحدث ذلك فعلا، حيث كان لافتا أن الإفراج عن الرهائن الأميركيين، بعد 444 يوما، جاء في اليوم نفسه الذي وصل فيه ريغان إلى البيت الأبيض في 20 يناير 1981. وسبقت ذلك اجتماعات سرية عقدها مسؤولون إيرانيون مع ويليام كيسي مدير حملة ريغان ومستشاره، شارك فيها أيضا جورج بوش الأب عندما كان نائبا لريغان. وكانت تلك الجائزة بداية لصفقات كثيرة بين الطرفين، دعمها حرص إدارة ريغان على عدم اتخاذ مواقف حادة تجاه السياسات الراديكالية لإيران في المنطقة، حتى مع تورّطها في أعمال إرهابية أسفرت عن وقوع ضحايا أميركيين، على غرار تفجير مقري السفارة الأميركية وقوات المارينز في بيروت في 18 و23 أكتوبر 1983.إيران اعتادت على استيعاب الضغوط التي تفرضها الولايات المتحدة عليها، والتي طالت فقط بعض الأشخاص أو الشركات التي تدعم برنامجيها الصاروخي والنووي إيران غيت وصلت تلك التفاهمات إلى ذروتها في منتصف الثمانينات مع الزيارة التي قام بها روبرت ماكفارلين مستشار ريغان للأمن القومي إلى طهران ولقائه مع رئيس البرلمان آنذاك هاشمي رفسنجاني في عام 1986. جاءت هذه الزيارة في إطار الصفقة التي توصل إليها الطرفان وتقضي بحصول إيران على أسلحة أميركية بوساطة إسرائيلية مقابل مساهمتها في إطلاق سراح بعض المختطفين الأميركيين في لبنان، على أن يخصص عائد تلك المشتريات في دعم حركات “كونترا” المناوئة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا. وتسبّب الكشف عن هذه الصفقة، التي أطلق عليها “إيران غيت” أو “إيران كونترا”، بعد أن وصل صداها إلى الإعلام، في ضجة كبيرة داخل الولايات المتحدة، باعتبار أنها كانت تنتهك القوانين الأميركية التي لم تكن تسمح بمثل هذا الدعم. وجاءت حرب الخليج الثانية في بداية التسعينات من القرن الماضي لتمثل بداية مرحلة جديدة من الانفتاح الإيراني-الأميركي، بعد أن استغلتها حكومة هاشمي رفسنجاني في تحقيق المزيد من التقارب في المواقف مع الولايات المتحدة، في ظل الموقف المناهض الذي تبنته إزاء الغزو العراقي للكويت. وتذكّر كينوش أن رفسنجاني قال حينها في مؤتمر صحافي لعدد من الخبراء الأمنيين الأجانب إن “إيران يمكن أن تقبل واقع وجود القوات العسكرية الأميركية في الخليج، على الرغم من إعلانهم معارضة ذلك أمام الرأي العام كثيرا”. وتطور الأمر في منتصف التسعينات، وتحديدا خلال عهد إدارتي بيل كلينتون ومحمد خاتمي. وأظهر رفسنجاني رغبته في التقرّب من الإدارة الأميركية، عندما قال في ندوة عامة في نيويورك إنه “يريد التأكيد على أن كلا من الولايات المتحدة وإيران لهما جذور مشتركة في المعتقدات الدينية”. وانعكس التقارب في قرارات أميركية عديدة مثل إدراج اسم منظمة مجاهدي خلق على قائمة التنظيمات الإرهابية في عام 1997 وتخفيف القيود التجارية المفروضة على إيران والسماح باستيراد بعض السلع مثل الكافيار والسجاد والفستق، فضلا عن تقديم اعتذار عن التدخل الأميركي في إسقاط حكومة مصدق. وقابلت إيران هذه الإجراءات بخطوات مماثلة، أبرزها إدانة أحداث 11 سبتمبر 2001 وتوجيه رسالة تعزية إلى الشعب الأميركي ثم مساعدة الولايات المتحدة خلال حربيها في كل من أفغانستان والعراق، واللتين أسفرتا عن إسقاط أكبر خصمين إقليميين للأخيرة وهما حركة طالبان ونظام صدام حسين. ورغم التوتر الذي شاب العلاقات بين إدارتي جورج بوش الابن ومحمود أحمدي نجاد، خلال الفترة من 2005 وحتى 2013، بسبب الخلاف حول أزمة البرنامج النووي الإيراني، ووضع الإدارة الأميركية إيران في قائمة “محور الشر” مع العراق وكوريا الشمالية، إلا أن ذلك لم يمنع الطرفين من الاستمرار في إجراء مباحثات سرّية وعلنية. ونظمت لقاءات عديدة بين السفيرين الأميركي والإيراني في العراق حول التطورات السياسية والأمنية التي شهدتها الساحة العراقية، وبعدها صدر تقرير لجنة بيكر-هاميلتون في عام 2006، والذي أوصى إدارة بوش بإجراء حوار مباشر مع إيران حول العراق.استعداء متبادل لخدمة سياسات داخلية وملفات إقليمية الصفقة النووية دخلت العلاقات الإيرانية-الأميركية مرحلة أكثر انفتاحا مع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض في عام 2008، وذلك في ظل السياسة الجديدة التي تبنتها الإدارة الأميركية والتي قامت على إجراء مفاوضات سرية مع إيران وتوجيه رسائل تهنئة عديدة إلى القيادة والشعب في إيران بمناسبة أعياد النيروز. ومهّدت هذه المفاوضات الطريق أمام إجراء المفاوضات بين إيران ومجموعة 5+1 التي انتهت بالوصول إلى الاتفاق النووي في يوليو 2015. وبدأت الإدارة الأميركية في الدفاع عن الصفقة النووية أمام معارضيها في الداخل، لدرجة تسببت لها في أزمات عديدة. ونشبت أبرز تلك الأزمات، في بداية عام 2016، عندما دفعت الإدارة الأميركية أموالا نقدية إلى إيران تصل إلى نحو 400 مليون دولار قيمة تعويضات لإيران عن صفقة وقعت خلال عهد الشاه ولم تنفذ، حيث تم الربط بين هذا الإجراء وبين إفراج إيران عن بعض السجناء الأميركيين، بشكل دفع خصوم الصفقة إلى اتهام الإدارة الأميركية بدفع “فدية” لطهران، وهو ما رفضته الإدارة التي فسّرت ذلك بأنه جزء من أموال مستحقة لإيران تبلغ نحو 1.7 مليار دولار. ورغم التغير الظاهر في السياسة الأميركية بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2017، بسبب موقفه الرافض للاتفاق النووي وحرصه على مهاجمة أدوار إيران في المنطقة، إلا أنه واصل العمل على نهج أسلافه في سياسة الكيل بمكيالين في التعامل معها. واعتادت إيران على استيعاب الضغوط التي تفرضها الولايات المتحدة عليها، والتي طالت فقط بعض الأشخاص أو الشركات التي تدعم برنامجيها الصاروخي والنووي. فضلا عن أن إدارة ترامب لم تتخذ أي إجراءات لمنع إيران من تقديم المزيد من الدعم العسكري للميليشيات الإرهابية الموجودة في دول الأزمات، مع أنها منحت هذا الملف أولوية خاصة في الفترة الأخيرة. ومع اندلاع الاحتجاجات الأخيرة في نهاية ديسمبر 2017، انحصر الموقف الأميركي في تقديم دعم معنوي للمحتجين صبّ في صالح النظام، الذي استغله للترويج لادعاءاته القائمة على ارتباط الاحتجاجات بمخطط خارجي يهدف إلى تقويض دعائمه، رغم أن الدوافع الحقيقية للاحتجاجات تتركز على تردي الأوضاع الاقتصادية واستنزاف الأموال الإيرانية في دعم الإرهاب. وكان كل ذلك يجري في الوقت الذي يستمر النظام الإيراني في رفع شعارات “الموت لأميركا” في الداخل، ضمن خطوات متقاطعة ومواقف متقاربة كلها تشير إلى أن التوتر الظاهر في العلاقات الإيرانية-الأميركية لا يمثل سوى غطاء لتفاهمات وصفقات مستمرة بين نظام الجمهورية الإسلامية و”الشيطان الأكبر”، لم يكن يوما شيطانا.

مشاركة :