الرهان هو أن نستطيع ترسيم حدود واضحة المعالم بين العالم الافتراضي والواقعي وأن نبقى قادرين على العيش في صدق التجربة النوعية التي لم تعرفها الأجيال السابقة.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2018/01/19، العدد: 10874، ص(17)] تداولت على الواتساب وصفحات الفيسبوك صورة تظهر "شيطانا له قرون" مرفقة بتسجيل صوتي يحذّر المواطنين من عدم فتح أبواب منازلهم في منطقة الشويفات اللبنانية وذُكر في التسجيل أن قوى الأمن والجيش يلاحقونه بعد أن أكل 4 أشخاص، الأمر الذي أثار قلق أهالي وسكان منطقة الشويفات ومحيطها خاصة وأن الصورة تم تداولها بشكر كبير وخطر”، هذا الخبر عمّ مؤخرا نشرات الأخبار في لبنان بوصفه أولا خبرا يهمّ الناس كلها، وثانيا بهدف تكذيبه و”تهدئة روع” كل من يسكن منطقة الشويفات التي تقع جنوب بيروت، بشكل خاص بأن أحدا لن يأكلهم، على الأقل ليس في المدى القريب وأن الآكل لن يكون حتما المخلوق المخيف. ليس هذا الخبر هو الوحيد من نوعه ولن يكون الأخير محليا وعالميا. وتعقيبا على وضع حدّ له وكشف ملابساته الخيالية قيل إن الرهان اليوم هو على الناس التي تضع حدا لمثل هذه الأخبار التافهة والمرعبة وألا تعيد نشرها. غير أن كل متمعن بما حدث فعلا سيدرك أن هذا الخبر الخرافي ليس إلا مجرد مثال عما يُمكن أن نطلق عليه “الإشاعات غير المُغرضة” وإن أصابت الضحية شر إصابة. فهذه الإشاعات الغرائبية ليست إلا من نسيج عالمنا الحديث وقد باتت جزءا لا يتجزأ منه. الرهان الحقيقي هو ليس في “وضع حدّ لمثل هذه الأخبار التافهة والمرعبة والا يُعاد نشرها”، فهذا أمر مستحيل في عالم كعالمنا بات يعتاش من هكذا اختلاقات. الرهان هو أن نستطيع ترسيم حدود واضحة المعالم بين العالم الافتراضي والواقعي وأن نبقى قادرين على العيش في صدق التجربة النوعية التي لم تعرفها الأجيال السابقة. تمكنت التطبيقات الخلاّقة على الهواتف الجوالة بأن تنشئ عالما افتراضيا انبثق عن الواقع، بل كان نتيجة له هو عالم تسكنه مخلوقات مُرعبة ومُنتقمة أو طريفة ومضحكة، أو رائعة وحنونة تجمعها خاصية واحدة هي قابليتها بأن تعزف على أوتار مخاوفنا وأحلامناً وتجاربنا (أو ندرتها) وهي “وقائع” تختلف عن تلك التي نعيشها في سياق حياتنا المشرذمة بكثرة الصور الكاذبة، أو تلك التي تدعي الصدق وشتان ما بين الإثنين. ولعل الفنان الأميركي بن روبن استطاع أن يقدم مثالا على التداخل الكبير ما بين العالم الافتراضي والواقعي، دون أن يؤدي ذلك إلى وقوع الخلل في ذهن المُتلقي لصوره بشأن الحدود الفاصلة ما بين المُتخايل والحقيقي حتى وإن أتى العالم الافتراضي عبر فنه كامتداد للعالم الواقعي. استطاع هذا الفنان أن يبتكر طريقة تنقذه من ملل الجلوس يوميا في “متروهات” نيويورك ذهابا وإيابا من وإلى مكان عمله. فقد عمد إلى أخذ صور للناس في حالات جلوسها أو وقوفها المختلفة داخل المتروهات، ومن ثم عمد إلى استخدام جهاز “الأي باد” ليضيف إليها رسومات لمخلوقات مخيفة/مُضحكة تبرز مختلف أنواع مشاعر الركاب أو تستطرد على ما يقدمونه من وضعيات أو تصرفات. كما استطاع أن يقدم تأويلات لما يحدث في المترو عبر تعابير وجوه أو حركات شخوصه الخيالية التي غالبا ما تتعدى أحجامها الركاب ويغلب عليها اللون الأزرق. في بعض الصور يشرب أحد الكائنات من قهوة راكب جالس ينظر في الفراغ. وفي صورة أخرى يبتلع مخلوق أزرق نصف راكب متمدد على أحد المقاعد، بينما يحتضن مخلوق “أخطبوطي” رجلا يغط على مقعده في نوم عميق. تكاثرت صور الفنان بن روبن وباتت له صفحة فيسبوكية شهيرة يتابع مشاهدتها الكثيرون. ينسج شريف عالما افتراضيّا، وإن كانت جذوره-في الأصل- تنتمي إلى عالم الواقع الذي لا ينفصل عنه، بل يكاد يكون هو المسبِّب في اللجوء إليه بكلّ أوهامه وأيضا بأخطاره. أصبح لكلّ واحد منا عالم افتراضي يهرب إليه. ما يهم هو أن يعود منه مع أقل أضرار ممكنة له وللآخرين. ناقدة لبنانيةميموزا العراوي
مشاركة :