لا يحتاج شعب تغتصب أرضه إلى فتوى بشرعية المقاومة، أيا كان الشعب وأيا كان الاحتلال، وفلسطين قضية إنسانية، وليست مسألة دينية يستفتى فيها شيوخ لا يتمتعون بفضيلة الاستقلال عن السلطة.العرب سعد القرش [نُشر في 2018/01/19، العدد: 10874، ص(9)] قبل عشرين عاما، وجه صديق سؤالا إلى سميح القاسم: الآن وقد أصبحت لديكم سلطة حكم ذاتي، هل تدعو أصدقاءك المثقفين إلى زيارة فلسطين؟ أم ترى في سلوكهم تطبيعا؟ وأجاب: لا أدعوهم ولا أنهاهم، من يأتي سنرحب به ومن يرفض فلن نلومه. في هذه السنوات العشرين أطلق شعار مراوغ يقول “زيارة السجين الفلسطيني ليست تطبيعا مع السجان الإسرائيلي”، وهي مقولة اخترعها من اخترعها، ثم رددها الكثيرون من غير تفكر، لإعفاء ضمائرهم من الشعور بالذنب. ولا أصفها بالسذاجة ولا الغرض؛ فظاهرها البراءة إذا رفعها مخرج سينمائي أو ممثل عربي محدود الوعي، أما أن يتبناها مثقف، كما جرى في ملتقى برام الله في مايو 2017، فتكون عنوانا للغفلة، إذ تتم الزيارة بإذن السجان وتحت عينه، ولا يزيد حصادها على تجرع شيء من الحسرة وطرف من الذكريات، ولا تؤدي إلى كسر للحصار، وإنما تقاسم الإهانة مع السجين، ولا يختلف في جرعة الهوان سجناء فلسطين، من أصغر طفل حتى أكبر رأس في السلطة، لا أقصد محمود عباس بل ياسر عرفات، وقد أرهقته مشقة الطريق، وفرح بحرس الشرف، ولم ينصت إلى عقلاء في مقدمتهم إدوارد سعيد، ثم كانت النهاية التي تنتظر كل بطل تراجيدي لا يبالي بالموت أو السم. الدعوة إلى زيارة فلسطين، ليست فلسطين بالطبع وإنما مناطق محددة يتفضل الاحتلال الصهيوني بالسماح لمن يشاء بالوصول إليها، أطلقها في القاهرة الأربعاء (17 يناير 2018) الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في افتتاح مؤتمر “نصرة القدس” الذي نظمه الأزهر برعاية الرئيس المصري، إذ طالب أبومازن “بشد الرحال إلى القدس لمنع التوغل الإسرائيلي فيها، ودعم هويتها، وليس للتطبيع مع الاحتلال أو الاعتراف بشرعيته… مقاطعة القدس تضيف للاحتلال، لأن زيارة السجين ليست تطبيعا مع السجان، فكيف يصمد الفلسطيني وسط المقاطعة، لا تتركونا وحدنا، ونتمنى منكم أن تقوموا بزيارتنا، ولن نترك أرضنا ولن نفعل حماقات 1948 و1967”. تصريح يهين الذين فروا بأبنائهم من المذابح عند النكبة ومن القصف في هزيمة 1967، كأنهم حمقى، أو باحثون عن حياة مترفة، وليسوا مهجّرين تحت تهديد السلاح. وبدلا من الاعتذار إليهم، والإلحاح على حصار الكيان الصهيوني ودعوة الحكومات الإسلامية إلى منع التعامل مع جيش الاحتلال، يتم توجيه اللوم إلى الضحايا المحرومين من التطبيع مع بلادهم، الممنوعين من حقهم الإنساني في العودة. ماذا تُجدي زيارة مواطن عربي للقدس، وفقا لسقف شديد الانخفاض لا يسمح إلا بالانحناء؟ شد الرحال إلى القدس لن يمنع “التوغل الإسرائيلي”، فليس الزائر الذي يخضع لإملاءات وإكراهات جيش العدو مسلحا إلا بالنية الطيبة، وتلخيص القضية في القدس يصرف الانتباه عن حقيقة أن فلسطين كلها، بما فيها مناطق السلطة، واقعة تحت الاحتلال. خطاب محمود عباس ينتمي إلى عصر النفير، ويتجاهل حقيقة أخرى، أن زائر فلسطين قليل الحيلة، مثل خطيب المسجد الأقصى الشيخ يوسف سلامة، وقد منعه الاحتلال من المغادرة إلى القاهرة لحضور المؤتمر، الذي كان عليه أن يعلن قائمة بأسماء دول عربية وإسلامية تمارس مع العدو تطبيعا لا تضطر إليه، وتتبادل معه كافة أشكال التعاون الاقتصادي والعسكري.أعجب العجب أن يُهمش البعد الديني في مقاربات القضـية الفلسطينية، بينما كـل أوراق الكيـان الصهيوني أوراق دينية خالصة هذا هو الكلام المحدد والمسؤول، أما التباري في النواح فلا يفيد أحدا ولن يترك أثرا. الفرصة مواتية لإعلان أن فلسطين كلها محتلة، وأن من حق شعبها مقاومة الاحتلال بكل وسيلة يراها مناسبة لكل مرحلة، وأن تحريرها من قبضة الاحتلال يجب ألا يخضع للمساومة، وأن القدس كلها لا القدس الشرقية كما يصر الرئيس عبدالفتاح السيسي عاصمة الدولة الفلسطينية، وأن حل الدولتين سراب يخدع به العرب أنفسهم، ويصادرون على الجيل الفلسطيني القادم حقه في الحلم بدولة لا تفرق بين مواطنيها على أساس الدين أو المذهب، ولن يكون السبيل إلى هذه “الدولة” عبر بوابة دينية أو نافذة مذهبية، ولو رأى شيخ الأزهـر غير هذا. ففي كلمته في افتتاح المؤتمر قال الشيخ أحمد الطيب إن “علينا ألا نتردد في التعامل مع قضية القدس من المنظـور الديني: إسلاميا كـان أو مسيحيا. ومن أعجب العجب أن يُهمش البعد الديني في مقاربات القضـية الفلسطينية، بينما كـل أوراق الكيـان الصهيوني أوراق دينية خالصة لا يدارونها ولا يحسبونها سوءات يتوارون منها، وماذا في يد هذا الكيان من مبررات في اغتصاب أرض تنكره، بل تنكره آباؤه وأجداده غير التهوّس بنصوص وأساطير دينية تبرر العدوان، وتستبيح دماء الناس وأعراضهم وأموالهم! بل ماذا في يد الصهيونية المسيحية الحديثة التي تقف وراء هذا الكيان وتدعمه وتؤمن له كل ما يحلم به، غير تفسيرات دينية زائفة مغشوشة يرفضها آباء الكنيسة وعلماء المسيحية وأحبارها ورهبانها وينكرونها أشد الإنكار”. لا يحتاج شعب تغتصب أرضه إلى فتوى بشرعية المقاومة، أيا كان الشعب وأيا كان الاحتلال، وفلسطين قضية إنسانية، وليست مسألة دينية يستفتى فيها شيوخ لا يتمتعون بفضيلة الاستقلال عن السلطة، فيفتون في مصر جمال عبدالناصر بتحريم التعامل مع إسرائيل، ويميلون كل الميل مع أنور السادات فيمنحونه مباركة التصالح المجاني، بدعوى أن الأعداء “جنحوا للسلم”. والجنوح من عدمه يحدده أهل الاختصاص في ضوء الصواب والخطأ، هكذا أجمع ثلاثة وزراء للخارجية على الاستقالة، اعتراضا على استسلام السادات، ولكن متولي الشعراوي وزير الأوقاف وشؤون الأزهر نظر إلى أداء السادات من زاوية الحلال والحرام، فقال “لو أن الأمر بيدي لجعلت الرئيس المؤمن محمد أنور السادات في مقام الذي لا يسأل عما يفعل”. المنطلق الديني سينتهي إلى المدينة المقدسة وحدها ولن يرى سواها، ولكن القضية تخص التراب الفلسطيني كله، والشعب في الداخل وفي المنافي، ولا يخدم التذرع بالبعد الديني إلا الصهاينة، وهم علمانيون منذ الإرهابيين الأوائل حتى تأسيس الكيان المغتصب عام 1948، والاستناد إلى حجج دينية في صراع استعماري يعلن فيه الصهاينة “نكون أو يكونون” سيطيل عمر هذا الكيان، وسيخترع الاحتلال أسانيده وأساطيره ويغرق العالم المتعاطف معنا في التفاصيل. روائي مصريسعد القرش
مشاركة :