صورة الحداثة في الوعي الفكري العربي

  • 1/19/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

هل التقليد والحداثة وما بعد الحداثة ، حقب فكرية، ونظم معرفية متعاقبة، تترجم قطائع حدثت داخل واقع إنساني خاص، هو واقع الغرب الأوروبي ؟ أم أنها مقترحات فكرية وشبكة تمثّلات، وسلطة معايير، عبّرت عن مسار الحضارة الغربية من الناحية العلمية، والعسكرية، والآجتماعية، والسياسية . هذه التساؤلات يتضمنها الكتاب الصادر عن المركز الثقافي العربي تحت عنوان « التقليد والحداثة وما بعد الحداثة « في المجال العربي لمجموعة أساتذة باحثين في قسم الدكتوراه في الجامعة اللبنانية . يعبّر التقليد من حيث التعريف عن نمط تفكير يسوّغ نفسه على أنه «دائما هكذاً»، في إشارة إلى سلطة العادات والتقاليد والشعائر، وكل ما يضمن استمرار المجتمع وديمومته على هيئة ثابتة، ما يجعله مجتمعاً تقوياً زهدياً، يقوم على التجانس في المعتقد، والسلوك والعادات، وتهيمن فيه العقيدة اللاهوتية التي تزرع في الإنسان الخوف من ارتكاب الخطيئة التي تشمل كل تفرّد أو تميّز عن الجماعة، وتحض على الزهد في الحياة الدنيا، واعتبار الدار الآخرة دار الخلود والنعيم. أما الحداثة من حيث الإصطلاح فقد قام فكرها على وعود تحرّرية كبرى عبر استخدام المعرفة على نحو حرّ وخلاق، وتمظهر في تشكيل رؤية علمية في فهم وتفسير الطبيعة تبعاً لمجموعة قوانين صارمة في الفيزياء والرياضيات، وتمظهر أيضاً في تحوّل السلطة من اعتبارها كائناً طبيعياً وفق فلاسفة اليونان ينمو ويتحوّل بمعزل عن إرادة الإنسان، أو غيبا تتحدّد مجرياته، ومشروعيته بالوحي، أو القدر، إلى اعتبارها كائناً صناعياً تنتجه الإرادة الإنسانية، وبذلك باتت السلطة تدبيراً إنسانياً، وبات المجتمع ظاهرة موضوعية يمكن تنظيمها تنظيماً عقلانياً. وتمظهر أخيراً في اعتبار العقل نوراً باطنياً كامناً في الإنسان تشعّ منه البداهة، ومبادئ الصحة والصواب في تبصّر حقائق الأمور وحسم صحتها، ما جعل وثائق الوحي ذات قيمة ثانوية، أو ربما فاقدة الصلاحية في اختزان الحقائق، أضف إلى ذلك التجرّؤ لأوّل مرة على دراسة الأديان من وجهة نظر تاريخية، وإنكار المعجزة لأن الطبيعة تخضع لقوانين فيزيائية وعلمية. تعني الحداثة من حيث الأساس المرحلة اللاحقة للتقليد، وتعبّر عن توجّه نقدي للتنوير والحداثة، وقيمهما، ولقد بدأ هذا النقد والرفض على حدّ سواء في مستوييه النظري والفلسفي مع نيتشه في القرن التاسع عشر، وذلك عندما شرع في نقد الحداثة الغربية وعلى رأسها العقل، وتقوّى هذا التوجه النقدي مع أنصار نيتشه وهيدغر من الفلاسفة المعاصرين أمثال دريدا وليوتار وفاتيموالذي يرى أن مابعد الحداثة تعود إلى فكرتين أساسيتين أصابتا أوروبا، وهما نهاية السيطرة الأروبية على العالم، ونموّ وسائل الإعلام والاتصال وتطوّرها، ما أفسح في المجال للثقافات المحلية والفرعية والهامشية للبروز. تتوزّع الأبحاث في الكتاب على محاور أربعة، إلا أن محور الحداثة يشغل الحيّز الأكبر من بين المحاور الأخرى، فالتقليد ليس سوى وسيلة للتعرف إلى بدايات الحداثة، والرحم الذي خرجت منه، وما بعد الحداثة وسيلة أيضاً لإدراك مآلات الحداثة ذاتها في مشهديتها المعاصرة التي لم يحسم الجدل في شأنها، هل هذا المابعد طور متقدم من أطوار الحداثة ذاتها، أم بشارة لفجر إنساني جديد؟ المحور الأوّل كان بعنوان «التقليد والحداثة وما بعد الحداثة، العناصر والمؤشرات في بنى التفكير والممارسة». قدّم فيه البحوث الدكاترة جيرا جهامي، فرانك درويش، رندى أبي عاد، جمال نعيم. المحور الثاني كان بعنوان «التمثلات العربية للتقليد والحداثة ولما بعد الحداثة في شروطها التاريخية» أعدّ فيه البحوث الدكاترة شربل داغر، محمد علي مقللد، مهدي شحادة، وعلي حمية. المحور الثالث كان بعنوان «قراءة نقدية لمشاريع التحديث في العالم العربي الإنجازات والإخفاقات» قدّم فيه البحوث الدكاترة باسل صالح، وفاء شعبان، جورج قرم. المحور الرابع كان بعنوان «شروط الحداثة العربية وإمكاناتها» قدّم فيه الدكتور بشير عون بحثاً لافتاً تحت عنوان «المرتكزات الفكرية لحداثة عربية ممكنة». تعرّف العرب إلى الحداثة في مرحلة متأخرة من ظهورها، أي بعد عصر الأنوار، ونجاح الثورة الفرنسية التي مثّلت الذروة التاريخية في تمثّل التنوير وتأسيسه. واطلعوا على تناقضاتها التي بدأت تطفو على السطح مع بداية مسعى فلسفي جديد يعيد الحداثة إلى شروطها المادية (ماركس)، أو الإرادة اللاواعية (شوبنهور) أو تراتبية قيم خفية بين النبل والانحطاط (نيتشه). تلقّى العرب الحداثة أيضاً منفصلة عن شروطها المادية، تلقوّها أفكاراً مجرّدة من تاريخها وممزوجة بالاحتلال والاستعمار والتوسّع، من دون الالتفات إلى أنها كائن تاريخي حملته شروط النشاط الإنساني والتفاعل الاجتماعي في الغرب الأوروبي. ومن دون إدراك أسباب إنجازاتها العلمية والعسكرية. أضف إلى ذلك أن العرب تلقّوا الحداثة بذهنية قروسطية متوارثة وراسخة في تكوين العقل العربي، أي بمرجعية فكرية يمتنع عليها رؤية رهانات الحداثة أو تلقّف أسئلتها، أو استيعاب ديناميتها الداخلية. وهي ذهنية في أحسن أحوالها لا تختلف عن الذهنية السكولاتية التي تطوّرت في الغرب إثر استحداث توما الأكويني فكرة المجالين المتجاورين، مجال العقل ومجال الإيمان، أو المجال الديني والمجال السياسي. لقد شغلت فكرة المجالين المتجاورين الدين والسياسة كبار رجال النهضة ومن بينهم أحمد لطفي السيد وفرح أنطون. محمد عبدو مرّ بمرحلتين فكرييتين مهمتين في مصر، الأولى سبقت ثورة ألف وتسعمئة وتسع عشرة التي تزعّمها سعد زغلول حيث كانت اهتماماته تأخذ بعداً حركياً لمواكبة الحداثة بمنظور ليبرالي لم يكن جذرياً، ولا متكاملاً مع المفهوم الأصلي لليبرالية الغربية، بل كان نوعاً من الليبرالية الإصلاحية. لم يحدّد لطفي السيد بوحي من حداثته الفكرية، الأمة على أساس الدين أو اللغة، بل على أساس الأرض. الأمة في نظره يجب أن تكون شريكة للحكومة في السلطة، شرط ألا يكون شكل الحكومة استبدادياً. أما محمد عبده وفرح أنطون فقد كان حوراهما حول علاقة الدين بالسياسة يسترشد بخطوطه الكبرى بطروحات الحداثة في الغرب حول علاقة الكنيسة بالدولة. كان هذا الحوار مجالاً لطروحات هزّت بيئة المثقفين العرب، من ذلك دعوة فرح أنطون إلى الفصل بين الدين والدولة للانتقال بالعالم العربي من التقليد إلى التجديد، ومن الأصالة الجوفاء إلى الحداثة التي تعني التقدم. ومن ذلك أيضاً أن محمد عبده نظر إلى الحداثة من زاوية مختلفة، معتبراً أن الإسلام إذا فهم على حقيقته قاد الشعوب المسلمة إلى الحداثة لاعتقاده أن الإسلام هو دين التقدّم، كما هو دين الوحي. في بحث لافت للنظر حول «المرتكزات الفكرية لحداثة عربية ممكنة» يقدم الدكتور بشير عون اقتراحاً يمكّن العرب من أن ينحتوا لوجودهم التاريخي حداثة عربية تليق بكرامة إنسانهم العربي، قوام هذا الاقتراح تأصيل الحرية الفردية الذاتية، وتسويغ التعددية الكونية وتعزيز العلمانية.

مشاركة :