بالفعل كما يقول د. محمد ناهض القويز ثمة ظاهرة عالمية خطيرة بدأت ملامحها منذ عقود ثم ازدادت وتيرتها خلال السنوات الأخيرة تمثلت في انحسار الطبقة الوسطى مقابل تضاعف رأس مال الاغنياء الفاحش. وفي ذات السياق يتحدث د. أحمد زيدان استاذ علم الاجتماع السياسي عن ظواهر مجتمعية رصدها علم الاجتماع خلال الفترة الماضية، مشيرا إلى انه من اخطر هذه الظواهر التباعد الاجتماعي الذي يعد اخطر من الانقسامات السياسية والايديولوجية على الدولة كل ذلك نتيجة لانهيار الطبقة الوسطى التي تتفكك معها القيم المجتمعية. ولأهمية هذه الطبقة في توازن المجتمع يقول احد المسؤولين اليابانيين ان سر النجاح الباهر الذي حققته التجربة اليابانية يكمن في الوجود الكمي والكيفي المميز للطبقة الوسطى، التي تشكل ثلاثة ارباع السكان والتي ظلت تضخ معرفتها وكفاءتها وحيويتها في شرايين المجتمع وتدفع به نحو التقدم في مختلف الحقول، والسؤال هل الطبقة الوسطى العامل الوحيد لتحقيق النهضة والتقدم؟ هذا ما ينفيه البعض ومن بينهم الكاتب والباحث عمر الدقير في مقالة له عنوانها «في اضمحلال الطبقة الوسطى» نشرت في صحيفة «اخبار الوطن» السودانية نوفمبر 2017. ولكن مثلما يزعم لا جدال في ان انحسار الطبقة الوسطى يعني انحسار دورها في عملية النهوض والتقدم كونها احد الدوافع الاساسية للعمل الوطني ومحور الحراك الفاعل لقوى التغيير وكونها تمثل مستودعا لقيم المجتمع وملامح ثقافته كما هي حامل مشاعل الوعي والاستنارة ومستودع ارادة التغيير. وهكذا فان الوجود العريض للطبقة الوسطى في المجتمع من دون ريب يحافظ على نسيجه القيمي وتمده بأسباب القوة والابداع، كما يؤشر لوجود قدر لا بأس به من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، مما يساعد على تماسك المجتمع ويجنبه الاضطرابات والهزات ويوفر فرصا للاستقرار والتقدم. فالطبقة الوسطى من وجهة نظره تضم الكتلة البشرية التي تتمتع بالحيوية وتتمتع بنمط تعليمي وثقافي ومهني يجعلها مؤهلة للعطاء في شتى المجالات، وهي – بحكم تركيبتها ووضعها الاقتصادي الذي ينزل بها دون مستوى الثراء الفاحش ويرتفع بها فوق مستوى الفقر والعوز – الاقدر على التعبير عن آمال وأحلام المجتمع من خلال حراكها في كافة المجالات، عبر التنظيمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. فإذا كان صحيحا فيما يقوله الدقير بالتحليل والتشخيص ان الطبقة الوسطى هو مولود شرعي للدولة، إذ ان سياسة الدولة – وتحديدا في المجال الاقتصادي والاجتماعي هي العامل الاكثر تأثيرا، في تحديد النطاق الكمي للطبقة الوسطى وفعاليتها.. فالدولة المهتمة بالتنمية الاقتصادية والبشرية هي مصدر المعرفة والاستنارة والرفاه المعقول – وبالتالي الفعالية والحيوية – لهذه الطبقة بما توفره لافرادها من تعليم وتأهيل وتدريب ومداخيل مادية من خلال التوظيف في مؤسساتها الخدمية والانتاجية إلى جانب اهتمامها بتهيئة البيئة لتشجيع الاستثمار في قطاعات الانتاج، الشيء الذي يتيح للافراد مجالا للنشاط الاقتصادي وفرص عمل هذه القطاعات، فان الصحيح ايضا تلك وجهة النظر التي تقول بان احد اهم عوامل بقاء انظمة الحكم المستبدة جاثمة على صدور شعوبها لفترات طويلة – رغم تراكم اسباب الانتفاض الشعبي ضدها، من ظلم وكبت وفساد وفقر – هو تآكل الطبقة الوسطى واصابتها بالضعف والهشاشة بفعل سياسات هذه الانظمة. في ندوة انعقدت في المنبر التقدمي في مارس 2016 نشرت في احدى الصحف المحلية قال الاقتصادي د. جعفر الصائغ: ان «دول مجلس التعاون الخليجي نجحت في صناعة أثرياء من غير شعوبها أي من العمالة الوافدة فيها، غير انها فشلت في حماية الطبقة الوسطى من مواطنيها من التآكل والتقلص». في حين – كما توضح الصحيفة – حذر عدد من المختصين من تقلص اعداد الطبقة المتوسطة في البحرين نتيجة التضخم وارتفاع الاسعار وفرض الضرائب والرسوم وعدم قدرة الاقتصاد المحلي على ايجاد فرص عمل مناسبة بالاضافة إلى جمود الرواتب وتدني مستوياتها ما يشكل تحديا كبيرا لسياسات وخطط التنمية. من يتحمل مسؤولية تراجع الطبقة الوسطى؟ يرى الصائغ – وهو على حق – ان الحكومة لا تتحمل وحدها المسؤولية عن تراجع هذه الطبقة، فالأفراد يتحملون المسؤولية ايضا فهناك غياب لثقافة الادخار والاستثمار، وشيوع ثقافة الاستهلاك، وكذلك عدم التزود بالمعرفة لاستخدام الأدوات المادية، وبالتالي ظهرت مشكلات ناجمة عن الاستخدام الخاطئ للمال!. وفي مقابل ذلك ان نمو هذه الطبقة وتحسن وضعها المعيشي وقدراتها العلمية والمهنية مرهون بوجود استقرار اقتصادي وسياسي واجتماعي وتبني سياسة اقتصادية فعالة وقادرة على استغلال الموارد المتاحة في تنويع القاعدة الانتاجية بحيث الا يعتمد الاقتصاد على قطاع معين وانما على القطاعات الاقتصادية المختلفة. وبحكم التفاوت الكبير بين الاغنياء والفقراء في الدول العربية التي لا تتمتع بالديمقراطية والتغييرات السياسية الحقيقية تجد البعض من الطبقة الوسطى تنتفع من تحالفها مع الانظمة مستفيدة من هذه الوضعية السياسية في حين ان الغالبية منها والطبقات الاخرى تعيش حالة من العوز والحرمان!.
مشاركة :