شخصيات تعيش في بيت للمتعة تفضح مأساة العراقيين بقلم: ممدوح فرّاج النّابي

  • 1/20/2018
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

رواية محمد حياوي الجديدة “بيت السودان” مع روايته السابقة “خان الشابندر” ليس في انشغالها بالمأساة ووقعها على الطبقات المهمشة التي جاءت الحرب لتقضي عليها تماما، وإنما التقاطع الواضح يتمثل في أن الروايتيْن تشتغلان بالنساء وعوالمهن الخاصة؛ خاصة العشق والجنس وإن كانت لم تغفل دورهن في المقاومة. بيت المتعة والعشق يأخذنا محمد حياوي في الرواية الجديدة، الصادرة عن دار الآداب، إلى عوالم من المتعة والسحر وقبلهما العشق إلى حد الجنون والامتلاك حيث يقع الجميع في سحر نساء “بيت السودان” بما في ذلك النساء تعشق النساء كما سيظهر من علاقة عفاف وياقوت. العنوان يخالف أفق توقع القارئ، فهو يشير إلى مكان يقصده العراقيون يوم الجمعة للمتعة، وإن كانت ثمة شروطٌ تفرضها على مرتاديه ياقوت مديرة البيت أهمها ألا “يدخله الدنس” فهو يبيع المتعة عن طريق الطرب والرقص، وإن كانت رقصتها –أي ياقوت- تتشابه مع أعمدة النور التي تنبعث من الرماد. ومن تتجاوز الشروط تطرد من البيت، وهو عقاب بمثابة الحكم بالإعدام “على أي فتاة من فتياته السوداوات. لأنهن جميعا لا بيوت بديلة لهن ولا عائلات”. يقدم لنا حياوي عبر عالم النساء مروية عن الحب والعشق، وإن كانت ثمة فلسفة يمررها الراوي المتوحد مع المؤلف الضمني حول مفهوم العشق وطقوسه وأيضا حالات الانصهار مع المعشوق أيا كانت صفته وهويته. بمعنى كيف أن العشق يبدل النظرة إلى الآخر، ومن الممكن أن يجعل من الضحية متعاطفا مع الجلاد، في تحول خطير ونقيض لنظريات ما بعد الاستعمار كما عند هومي بابا الذي اعتبر الآخر “مخْتلا نفسيا” وهو ما تبعه تغير في مدلولات الخطابات الجديدة، فكما تقول غايتري سبيفاك إن السرد يوفر “ممكنات جديدة كانت خفية في فهم التاريخ” وهنا العشق ينسف هذه النظريات ويجعل من نظرة المستعمَر التابع للمستعمِر نظرة تبدو فيها شفقة عليه بل ومبررة لما حدث. فالتابع الذي كانت تعول عليه سبيفاك “لأن يتحدث كاشفا التجربة المريرة التي أوقعه فيها المستعمر” يقدم التبرير على نحو ما رأينا في دفاع نساء البيت عن نانسي الضابطة الأميركية الأسيرة، واعتبارها مختلفة عن الأميركان الغزاة، فهي في نظرهم “مثقفة، وأيضا ممتنة” لموقف ياقوت منها، بل والأدهى أن علي كان يراهن عليها بأنها لن تخذلهم. التغاضي عن صفة المستعمِر دفعت فتيات بيت السودان للرقص أمامها في محاولة لإظهار حياتهن. وفي المقابل كان الجميل من قبل الآخر/ نانسي فأوفت بوعدها وأطلقت سراح عفاف إرضاء لعلي. كما عرضت على علي العمل كمترجم مع القوات، وإن كانت تفهمتْ رفضه، وهذا التفهم في حد ذاته يغير من صفة المستعمِر. بل كانت الصورة الأكثر بشاعة هي إظهار أبناء الوطن الذين ارتموا في أحضان المستعمر. إحدى الصور المهمة التي أكدت عليها الرواية هي استعادة صورة العاشق الوله والذي يقْدم على تقديم أي شيء لمعشوقه وهي صورة شائعة في التراث العربي القديم. فهنا العاشق يقدم نفسه قرْبانا وفداء للمعشوق كما في صورة ياقوت التي قدمتْ جسدها لحبيبيْها علي وعفاف، ورقية الفتاة التي هامت بعلي وأقدمت على الانتحار في النهر بعدما اكتشفت ياقوت علاقتها بعلي. وبالمثل أطلقت نانسي سراح عفاف حبا في علي على الرغم من أن هذا يتنافى مع التقاليد العسكرية. الشيء اللافت هو أن الحب لا يقتصر على نساء البيت وعلاقتهن بعلي ذلك الفتى الأبيض الذي نشأ وسط عالم النساء السوداوات اللاتي جلبتهن ياقوت من خلف المستشفيات أو جاءت بعضهن بإرادتهن هربا من واقع اجتماعي قاهر. وإنما أيضا تقدم لنا المروية حكاية الرجال عن العشق المجهض كما في حالة الدكتور رياض الصيْدلي وحكايته القديمة مع منيرة الفتاة التي التقاها في السيرك وعشقها ولكنها غادرت ولم يفلح في الذهاب معها. أبطال استعاريون يقدم محمد حياوي أبطاله ياقوت وعلي (أو علاوي) وعفاف وزيدان الحوذي وكأنهم أبطال خارجون من أساطير قديمة لا في تشكيلاتهم الخارجية وإنما أيضا في تكوينهم الداخلي وأفعالهم أيضا. فعلي يأتي كبطل أسطوري مجهول الهوية، فعندما يسأل عجيبة والفتيات في بيت السودان عن هويته لا تأتي إجابة شافية، بل هو أشبه بحكاية خيالية أسطورية فتارة هو ابن ياقوت التي “كانت تحب رجلا أبيض تزوجته فترة وجيزة وزرع نطفة متمردة في أحشائها ذات ليلة واختفى… ومنهم من يقول إنهم عثروا عليه بقطعة قماش خلف سياج المشفى الكبير. حكايات غير مؤكدة ولا دليل عليها لكن الأهم أن الجميع في هذا البيت يحبه ويعطف عليه. ويلبي له طلباته بما في ذلك ضمد المتبرم الغريب الأطوار حارس المقبرة”.الرواية تعلي من قدر المرأة، فلا تحصرها في بؤرة مستهلكة كما اعتادت الكتابات الروائية وإنما تقدم لنا نماذج متعددة علي هو صنيعة النساء وقد صار أسيرا لهن من طفولته يتتبع خطواتهن في الطرقات والأسواق والأزقة وعندما كبر صار رهينا لجسد ياقوت وعشقها فأبت عليه ألا يترك مضجعها، وعندما هجرها إلى عفاف صار معطوبا. وبالمثل الدكتور رياض بقي أسير عشقه القديم لتلك الفتاة التي رآها في السيرك. أما عفاف فهي المتمردة والجانحة تقف في صفوف المعارضة وعندما يأتي الاحتلال تقف في صفوف المقاومة. إلا أنها أنثى وعندما تتذكر أنوثتها تجنح في عالم من النزق تارة مع علي وتارة أخرى مع ياقوت التي عشقت جسدها، ولم تهدأ حتى نالت منه وارتوت من رائحته. عالم بيت السودان يتكون إلى جانب ياقوت وعجيبة والفتيات السوداوات من ضمد الذي تغار منه ياقوت لأنه يحكي حكاياته الأسطورية لعلي، وزيدان الحوذي والد عفاف الذي ماتت زوجته أثناء ولادتها وهو محمل بشعارات ثورية ضد الاستعمار والرأسمالية، وهناك الفتاتان شمة ونعيم اللتان تعزفان على العود وترقصان الهيوة. هذا العالم بتركيبته التي تحوي أطيافا متناقضة من النسيح السكاني العراقي هو أشبه بتمثيل استعاري لواقع العراق ومجتمع العراق بأكمله. ومن ثم يكون هذا العالم بصخبه في ليالي الجمعة وما تشهده من رقص وغناء ومرح موازيا لعالم العراق الانفتاحي قبل أن تهبط عليه آلات الاستعمار وطيور الظلام الممثلة في التيارات الإسلامية المتشددة. ومن ثم ما يدور في هذا البيت هو انعكاس لمجتمع العراق بأكمله. وكأن حياوي جسد المأساة العراقية في هذا البيت الغريب الذي يحوي أطيافا متعددة ومتناقضة إلا أنه لا يحرض على الدنس في صورة رامزة ودالة على حالة التغريب التي أُدْخِل فيها العراق بعد سقوط بغداد. تعْلي الرواية من قدر المرأة، فلا تحصرها في بؤرة مستهلكة كما اعتادت الكتابات الروائية وإنما تقدم لنا نماذج متعددة؛ فهي المحبة العاشقة والمخلصة وأيضا الوطنية المناهضة للدكتاتورية والمقاومة للاحتلال، وهناك المرأة التي تقف أمام الذكورية كما فعلت ياقوت ووقفتها أمام سيد محسن، ونفس الشيء فعلته عفاف أمام النقيب سلمان.

مشاركة :