أسفل كوبري «6 أكتوبر»، في ميدان عبد المنعم رياض، وسط القاهرة، ينتشر عدد من باعة الذرة المشوية (الذرة المشوي كما ينطقها المصريون). المكان يعج بالمارة العائدين من أعمالهم والمتجهين إلى منازلهم في مناطق شبرا والقليوبية وحلوان والجيزة والمقطم، ولأنّ أمام غالبيتهم ساعة على الأقل للوصول إلى بيته، لذا يتجهون إلى ما يسميه المصريون «تصبيرة» مغلفة برائحة شهية، تهدئ من إحساسهم بالجوع حتى يعودوا إلى منازلهم.في هذه المنطقة وقف علاء ابن محافظة أسيوط، بشواية مصنوعة من الصاج، وضع بداخلها كمية من الفحم المشتعل، وراح يرصّ فوقها قناديل الذرة، ويحرّك بيده مروحة من الريش، كي يظل الفحم متقداً. علاء الذي حصل على مؤهل متوسط في المرحلة الثانوية التجارية، لم يجد وسيلة يرتزق منها بعد قدومه من بلدته في جنوب مصر إلى القاهرة، فقد بحث كثيراً كي يعمل في إحدى الشركات، لكنّه اكتشف أنّ معظمها تحتاج إلى حرفيين وفنيين، ولأنّه لا يملك ما يسوغ له الالتحاق بها، فكر في النهاية بأن يكون إشباع حاجاته، وإطعام أسرته عبر تهدئة وتسكين شعور أمعاء الجوعى العائدين من أعمالهم.تعتبر الذرة طعاماً صحياً بامتياز، فهي تؤكل ساخنة، كما أنّها تعطي إحساساً بالدفء في أجواء الشتاء الباردة، وذلك يرجع لعناصرها التي تتوزع بين الماء الذي يحتل النسبة الأعلى من بين مكوناتها، حيث يبلغ 13.5 في المائة بالإضافة إلى 1 في المائة بروتين، و4 في المائة زيت و1.4 في المائة سكريات و6 في المائة بنتوزان و2 في المائة ألياف خام و4 في المائة مواد أخرى، وهناك أيضا الكربوهيدرات التي تتضمن النشا والسكريات والبنتوزان والألياف الخام، والبوتاسيوم 40.5 في المائة والفسفور 43 في المائة والماغنسيوم 40 في المائة وبجانبها معادن أخرى 27 في المائة.توقف علاء بعدما انتهى من إنضاج مجموعة من القناديل التي يبيع الواحد منها بـ3 جنيهات، وهو أقل من ربع دولار، وراح يحرك الفحم المتقد بسيخ حديدي، ويوزعه على أنحاء الشواية، وعندما وجد أنّه لن يكون كافياً لإنضاج أعداد أخرى، سحب جوالاً كان إلى جواره، وراح يضيف كمية أخرى من الفحم يميناً ويساراً، وأخذ في تحريك مروحته من أجل أن تتسرب النار حيثما يريد.في هذه الأثناء، تجمع حوله مجموعة من السيدات والرجال، وأشار كل منهم إلى قنديل الذرة الذي يريده، وبدأ علاء مرة أخرى، في تقليبها على جوانبها المختلفة كي تصير ناضجة تماماً، مر أمامه أحدهم، وراح يداعبه «صار لديكم حسابات في البنوك، واشتريتم سيارات مرسيدس وارتفعت طوابق منازلكم، فضحك علاء، وقال له: «ولدينا أيضاً أسهم في البورصة».وكان تقرير رسمي أصدرته وزارة الزراعة المصرية، منتصف العام الماضي، ذكر أن مصر تنتج 6 ملايين طن من الذرة سنوياً، فيما تستهلك 12 مليون، وأن المساحات المزروعة بالمحاصيل الصيفية زادت إلى 2.5 مليون فدان.بعد قليل أقبل شاب في الثلاثين من عمره، يدعى محمد، عرفه علاء، بائع الذرة المشوية واستقبله بود بالغ، راح محمد الذي لفت إلى أنّه يعمل موظفاً في مديرية الزراعة، يشرح تاريخ زراعة الذرة في مصر، ذكر أنّها قبل عام 1965، كانت محصولا شتوياً نيلياً، وفي الصيف تُزرع مساحات قليلة منه، لكنّ الآن أصبح معظم الإنتاج يأتي صيفاً، في أبريل (نيسان) ومايو (أيار) ويونيو (حزيران) وأغسطس (آب)، بسبب تفوق محصول الزراعة الصيفية على النيلية.تناول علاء جوالا من الذرة كان على يمينه، ودعا مساعده كي يجهّزه له، وأزال الأوراق التي تحيط بها، تساءلت عن المصدر الذي تأتي منه حصيلته هذه، قال: «أحيانا اشتريها بنفسي من تجار معروفين في منطقة دير الملاك، أو السيدة زينب، أو شبرا، ذلك يوفر لي الكثير، لأنّني لو انتظرت من يجيئني بها هنا، سيكون الربح قليلا، ولا يناسب وقفتي على قدميَّ، كل هذه الساعات.ولا يتوقف استخدام الذرة عند حدودها الغذائية فقط، لكنّها تدخل أيضاً في صناعة أنواع من المنتجات الدوائية، فضلا عن الفَخَّار والدهانات، والورق والمنسوجات، وهناك سبعة أنواع رئيسية للذرة منها، «المنغوزة»، و«الصوانية»، و«الدقيق»، و«السكرية»، و«الفشار»، و«الشمعية»، و«الغلافية»، وجميعها تعتمد أساساً على الصفات المختلفة للحبات.راح علاء الذي ينتظر منذ العاشرة صباحا لحظة خروج الموظفين في الثانية مساء، ينظر بعيداً ناحية الطريق، سألته: «ما الذي تنتظره قادما من هناك؟»، أجاب: «لا شيء سوى البلدية، لو جاءوا فجأة سيأخذون (العدة) والذرة، وسأضطر إلى الفرار، لأنّني لن أستطيع الذهاب معهم، لأدفع غرامة إشغال طريق، لذا تراني مثل زرقاء اليمامة، أسعى دائما لاستشعار مواقعهم، حتى لا يداهموني ويحدث ما لا أتمناه».سألته وماذا عن رجال الشرطة، ردّ بصوت هادئ، يتعاملون معنا باحترام، ولا يمثلون لنا أي نوع من الأذى، نحن خارج نطاق عملهم اليومي، كثيرون منهم زبائن عندي، أحيانا يأتون لي ويشترون الذرة ويتحركون إلى مواقع أعمالهم، يتمنون لي مثل غيرهم رزقاً حلالاً، وأنا أتمنى لهم الصحة والعافية والسلامة.
مشاركة :