كتاب «محمد أركون، المعمار الإنساني للإسلام» (باللغة الفرنسية) عبارة عن سلسلة من المقابلات مع المفكر الجزائري في العام 2009، لكن في ربيع 2010 تدهورت صحته وتوفي في باريس في 14 أيلول (سبتمبر) 2010، ما حال دون قراءته المخطوط كاملاً، وأخذت زوجته على عاتقها إتمام العمل، وقد رأى الباحثان أن هذه الصفحات المنشورة تقدم فكرة شاملة عن أعمال محمد أركون. يعتبر المفكر الفرنسي، ادغار موران، في تقديمه، أن صاحب «معارك من أجل الأنسية» قد خاض منازلته الفكرية على جبهتين: نقد العقل الإسلامي ونقد العقل الغربي، ولهذا الغرض استخدم مناهج وأدوات معرفية مختلفة تسندها عقلانية منفتحة، باحثاً عن المسلّمات الأبستيمية التي تتحكم في الخطابات والمذاهب، مؤيداً مواقفه بالنقد التاريخي الذي يضع الرسول الكريم وكلامه في التاريخ المتعين، والنقد السيميوطيقي مستفيداً من أعمال غريماس. والغاية «نقد العقل الجامد» ولا سيّما في الإسلام، من دون أن ينزع عن القرآن سرّه الإلهي، ولكنه يضفي عليه إنسانيته التامة، اذ يرى أركون في كتاب الله «إنساني الإلهي» (l’humain du divin)، ولكونه ابن ثقافتين، فقد تعرض غالباً لسوء الفهم، ويُقدّر موران أن خصبه الفكري سيظهر أكثر فأكثر في المستقبل. تتناول الحوارات أهم المسائل التي تعرض لها أركون في أعماله الكثيرة، وقد اخترت أن أتوقف في العرض عند قضيتين تمسان الحال الراهنة، وهما الصلة بين الديني والسياسي ووظيفة علماء الدين. يستجوب الباحثان رشيد بنزين وجون لويس شليغل (باريس، منشورات البان ميشيل، 2012) أركون عن الديني والسياسي في زمن نزول القرآن ويبديان خشيتهما من أن يدخل الأمر في نوع من المفارقة الزمنية؟ ويجيب المفكر الجزائري بأن حياة البشر تجري في فضاء اجتماعي-سياسي، حيث تحيل عبارة «سياسة» الى (polis) الأغريقية والتي تعني المدينة، أي المجتمع السياسي على نحو عام والدولة بالمعنى الأشمل. ومنذ الفلسفة اليونانية قامت السياسة على تصور ماهية الحياة السياسية. وبناء على هذا الاعتبار، توجد سياسة في الخطاب النبوي، في شكل عام، لا في القرآن فحسب، ولكن أيضاً في التوراة، فالنبي موسى عبّر عن نفسه في فضاء اجتماعي، والأمر نفسه بالنسبة الى المسيح. ففي الفضاء الجمعي تطرح كل أنواع الخطابات من أفراد الجماعة في شأن حياتهم المشتركة، وثمة منافسة على السلطة، وبالتالي على التحكم في هذا الفضاء، وحينها يمكن أن يرتسم في الخطاب القرآني، حتى الروحي والطقسي منه، وجه سياسي. إذاً، الأنبياء الثلاثة المذكورون لا يصنعون السياسة بالمعنى الحالي للعبارة، ولكن يعيشون في فضاء سياسي يُنظمه قانون. وفي حالة القرآن، لم تكن هناك دولة خلال فترة نزول الخطاب النبوي، وأُقيمت الدولة السياسية فعلاً، في دمشق لاحقاً، بعد وفاة الرسول. ويلفت أركون الانتباه الى أن الإدارة السياسية زمن الخلفاء الراشدين ارتبطت بتراث واسع قبلي وعشائري، في مكة والمدينة، قائم على مفهوم العصبية، ولا تزال «الحقيقة الأنتروبولوجية» للسلطة موجودة، نراها في حكومات الدول الوطنية بعد زوال الاستعمار. لا يدّعي أركون أنه يقوم بعملية «تفكيك» (إقرأ «تقويض باللفظ الهايدغري»)، بل يُلقي نظرة متبصرة على مجتمعات باتت مُعقدة، ولكن تُبسط بوشاح لغة قانونية مجردة ومُلزِمة، كونها تأتي في مجرى قيّم الخطاب النبوي، مع حضور لافت للإلهي، وحضور هذا الأخير في المخيلة سيُعطي حياة للبنيان الحقوقي (أو الفقهي). ويتوجب في زعم أركون الوصول، كما في فرنسا، الى الفصل بين السلطتين الزمنية والدينية، بحيث تكون أمور البشر بين أيديهم، ويبقى المقدس والديني قائمين في اعتقادات الناس، وهذا يكون شأنهم الخاص. والحال، لم يدخل الإسلام في تجربة السلطة كما جرى عيشها في الفضاء الأوروبي، وهو فضاء مسيحي، كان يصطدم باستمرار بجدلية الديني والسياسي. ولا يملك الإسلام أي تجربة في جدلية العلماني/الديني، وغالباً ما تواجه التصورات المستجدة برفض قاطع. يطرح السائلان على أركون مسألة ما يجب أن يكون عليه «العلم بالإسلام»، فيبدأ من نقاش كتاب ماير هاتينا (Meir Hatina) الموسوم «حراس الإيمان في العصور الحديثة: العلماء في الشرق الأوسط» (الجامعة العبرية، القدس، 2009)، معترضاً على العنوان نفسه، فأركون يُفرِق بين «الاعتقاد» و «الإيمان». اذ «الاعتقاد» كلمة واسعة تُغطي حقلاً من الموضوعات المتغيّرة في مجرى الزمن ووفق الأمكنة، يقف دائماً في قبالة التعبير الحر عن الشخصية، وعائقاً في وجه تشكل هذه الأخيرة. في حين أن «الإيمان» يخص باطنية الذات البشرية وحريتها وتشكلها في العمق، يُقاوم تقلبات الزمن ويسكن الشخص منذ طفولته، في حقيقته الأعمق، ويساهم في تربيته وثقافته وترقيه. ولهذه الأسباب يتوجب، في عرفه، ضبطه ومساءلته ونقده في أسسه وتشكله، ومن المهم معرفة كيف يدير ويحكم الشخص. ويشير أركون الى أن كلمة «إسلام» في القرآن تعني «الإيمان»، أي الخضوع للأمر الإلهي. وفي البداية عنت عبارة «حراس الإيمان»، فئة من الناس كانوا على استعداد للاستشهاد ذوداً عن الدين. وهؤلاء ينظر اليهم التراث الإسلامي على أنهم فئة قامت خصيصاً للسهر على العقيدة القويمة، المنظور اليها من الجماعة على أنها الوحيدة الحقيقية، والقادرة على إدامة العهد والصلة مع الله. ويفتح دخول أي نمط من الحداثة الى البلدان الإسلامية، الباب واسعاً أمام نقاش جديد بأسئلة غير مسبوقة حول الإيمان: كيفية الحفاظ عليه وإعادة تعريفه وإصلاحه... الخ. وقد يحصل ذلك بإرادة فردية أو بتأسيس مذهب يُعدِل في تعريفه، الأمر الذي يُثير حجاجاً يصل حد الانشقاق. والسؤال يبقى من الذي يحسُم في مسألة القديم والجديد؟ فالجديد عند أولئك المكلفين بالحفاظ على الإيمان كما جرى تحديده في لحظة من الزمن هو زيغ وضلال، فالإيمان قد حُدد مباشرة من الله. في حين يرى أركون إن «الإيمان» دينامي غير جامد، وهو لا ينظر الى «الاعتقاد» على أنه مقولة أخلاقية، بل يراه اقتناعات تفتقد الصلابة، بسبب غياب الحجج التي تسندها ويجري تلقيها من دون نقد. بينما الإيمان متجذر في أعماق الإنسان يمتلك عفوية تدفع الى العمل والتقدم والتفكير، إنه مشروع حياة «يُنتج» الوجود. ينظر أركون الى «حراس الإيمان» هؤلاء بوصفهم أصحاب أيديولوجيا ناشطين لم يسمعوا بالحداثة، ويظنون أنهم يفعلون حسناً حين يوجهون الحاكم نحو الخير ويشيعون الاعتقاد والطاعة. طاعة الكل في وضع من الجهل، وهذا عمل أيديولوجي سلبي، فحين نُنكر الحداثة تكون غير موجودة. والشيخ يوسف القرضاوي، مثلاً، يجهل ببساطة المنهج التاريخي، والبحوث الجديدة حول مقاربة النصوص. أما الإسلاميون، وهم في الأساس ناشطون سياسيون، فيتمسكون بعقيدة جامدة ويرفعون لواء القوة. وهم جذريون يريدون فرض رؤاهم السياسية على المجتمع، انهم يستحضرون القيم القرآنية كي يمنحوا أنفسهم الشرعية وفرض مشروع سياسي، وهم يخلطون، في الواقع، كل شيء في معمعة أيديولوجية رهيبة، وتأتي سلطتهم من استخدام العنف السياسي. ويقدم العلماء بإزائهم وجهاً سلمياً ووداعة من دون اللجوء الى أي عنف لإرهاب الناس، العلماء ووفاقاً لآية قرآنية هم أولئك الذين تعمقوا في العلم القرآني بحيث باتوا قادرين على الدفاع عنه وحمايته ونقله، وثمة حديث نبوي يعزز من وضعهم كورثة للرسول الكريم، بسبب تلك المعرفة التي لديهم عن «العلم» ووظيفتهم في نقلها لتغذية الاعتقاد، وبدرجة أكبر الإيمان، فهم في مقام الوسيط والحامي والمُعلِم. ولاحقاً تغيّر الوضع، اذ أصبح بعض العلماء علماء حقيقيين منشغلين بالمعرفة وحتى بالمعرفة الخاضعة للجدل وليس المحفوظة عن ظهر قلب فحسب، في صيغة أحاديث وآيات وتفسيرات. كان هناك علماء كبار نظير ابن تيمية والطبري، وهذا الأخير سعى لإعطاء بنيان الإيمان دينامية. العلم في العصر الوسيط، في اعتبار أركون، انتسب الى التاريخ الأسطوري (mytho – histoire) أكثر من انتسابه الى التاريخ كما نفهمه اليوم. فالعلماء كرسوا أنفسهم لعملية النقل، وبعملهم هذا وضعوا تراثاً مُعتبراً، كان استثماراً للعقل ليواكب الإيمان. لكن هذه الدينامية تغيرت اعتباراً من القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين. اذ برز وضع ابستمولوجي جديد هو «حراس الإيمان»، وبقي الوضع كذلك الى يومنا مع ديناميات مختلفة. ولا يزال العلماء، كما في الأمس، مقطوعي الصلة مع العلم، ولا سيَما العلوم الاجتماعية منذ القرن التاسع عشر. لقد فقدوا الصلة مع دينامية الخطاب النبوي وفقدوا اتساع النظر السياسي والعلمي للعصر الوسيط الكلاسيكي، وخلال فترة الانحطاط (ق 16 الى ق 19) افتقدوا التصورات الفلسفية واللاهوتية. واليوم، هناك فئة أخرى هم الدُعاة، ولهؤلاء وظيفة اجتماعية لها عواقب سياسية ونفساوية ولا تقف عند حد هداية بعض الأشخاص. يُقِر أركون بأن أعماله المكتوبة للجمهور الأوروبي كانت من أجل أن يُصحح سياسته لا نحو الإسلام كدين فحسب، بل ونحو المجتمعات الإسلامية مثل الجزائر وتونس والمغرب، فهو كان يائساً من الوضع في البلدان الإسلامية.
مشاركة :