كان منح الصلح علامة من علامات بيروت السياسية وعلما من أعلامها الفكرية. كان له جمهوره الخاص وكانت له جمهوريته المتعففة. فلم ينتم إلى حزب ولم يقد جمهرة لكنه مثل سقراط معاصر، كان يحدث في المقاهي، ويلتقي حوله المريدون من أهل النخبة والسياسة والصحافة. مع منح الصلح تحولت بعض مقاهي بيروت إلى ملتقى عربي لا مثيل له. كان يتحلق حوله كل يوم المنفيون والطلاب والأساتذة والزوار العرب القادمون من كل مكان، ليصغوا إلى رؤيته وتحليله وخصوصاً إلى لذعاته غير المؤذية التي لم توفر أحداً. لكن مع الحرب أغلقت بيروت مقاهيها الفكرية وخسر منح الصلح رهانه على أن يصبح ذات يوم وزيراً أو رئيساً للوزراء، كما في تقاليد العائلة. وكما في تقاليد العائلة وأخلاقياتها ظل «منح الصلح» خارج السياسات الصغيرة ومتطلباتها. لا صفقات ولا تنازلات أخلاقية ولا مساومات على الأصول والثوابت. فالساخر الكبير كان أيضا صلباً. وكان الكثيرون من اللبنانيين يعتقدون أنه «أضاع نفسه» في هذا الموقف، لكن الحقيقة أنه أكثر من ربحها. لم يلوثها في جو خانق بالموبوءات والتنازلات. يأخذ الكثيرون، وربما الجميع، على المفكر الذي يشار إليه اختصاراً بـ«البك»، أنه بدد العمر في اللقاءات الشفهية. وتلك هي المأساة في حياته. لقد شلت يده اليمنى باكراً وأثقلت ساقه، وظنّي أنه لم يكن يريد أن يثقل على الآخرين بإملاء أفكاره، إلا المقالات التي كتبها ليعيش منها. وقد عاش حياة فائقة التواضع والتقشُّف، ينقله سائقه إلى مقهى «السيتي كافيه» في مرسيدس صغيرة لم تتغير طوال عشرين عاماً. وفي المقهى لم يكن البك يطلب أكثر من فنجان قهوة، حتى إذا حان وقت الغداء، عاد إلى منزله توفيراً للمصاريف. وفي سنواته الأخيرة باع بعض التحف التي ورثها عن والدته التركية التي كان أهلها من باشاوات إسطنبول. كان البك قريباً من الناصرية، لكنه ظل خارجها. وكان قريباً من أوائل البعثيين، لكن من بعيد. وكان من أعمق دعاة القومية العربية، لكن دون الالتزام بأي تنظيم. بالنسبة إليه كانت العروبة هي الدعوة الفسيحة التي تحتضن الأكراد وجميع القوميات والأعراق والمذاهب. سواء في لبنان أو في سائر العالم العربي، كان المفكر الكبير يعتقد أن الأمة لا تقوم على همجية الإلغاء الفكري أو الجسدي، وإنما على التلاقي والتعارف والتصالح. جيل بلا أعداء أو أخصام، كان جيل البك. فقط متنوعون ومختلفون وعليهم أن يتعارفوا. كان البك كثير الرقي، كثير الثقافة، كثير النزاهة، كثير التقشف.
مشاركة :