التهوين كالتهويل في «ثرثرة» عابرة على ضفتي النيل، ضفة يتمسّك بها المصريون كحق أصيل في أرض ومياه، وأخرى يرى فيها السودانيون دوراً حتمياً في همزة وصل لم تكن طارئة. مصر تدافع عن نهر ويابسة، والسودان عن علاقات مع قريب أثيوبي، وبعيد تركي. اللف والدوران نهج قيمي قديم في الدبلوماسية الدولية، يحترفه المصريون مثلما يعتنقه السودانيون، مصر بدورها تمركزت في جنوب السودان، واستعدت في ارتيريا، وأصبح وجودها المصيري مصيرياً في الدولتين المطوقتين لأثيوبيا والشمال السوداني، وبات خروجها مستحيلاً وسد النهضة يواصل التأثير في حصة مصر في النهر العتيق، قضية المياه للمصريين في تلك اللحظة حياة أو موت، لكنها لم تكن كذلك، ولن تكون بالنسبة الى السودانيين، فلكل لديه من المياه ما يكفي، ومن الغيوم ما يغطّي الاحتياجات، ومن التحديات داخل «الحوض» ما يفيض عن قدرة الشعبين على المواجهة وصلب الأعداء. بعد زيارة أردوغان الأخيرة للسودان، وبعد التوقيع على اتفاقية استئجار جزيرة استراتيجية في البحر الأحمر، قامت الدنيا ولم تقعد في القاهرة وضواحيها، وسنّت الأقلام سكاكينها في الخرطوم وروافده، الإعلام الفاشل مثل الصديق الجاهل، أيهما ــــ أو كلاهما ــــ يسكب زيتاً على نار، ويعتقد أنها ستكون برداً وسلاماً على الأحبة، ويصوّب رصاصاته على ذبابة فوق أنف رفيق، فتطير الذبابة ويموت الرفيق. سؤال يردده شعب وادي النيل: هل الصراع على قطعة أرض أم على قطرة ماء؟ هل الثرثرة مدوية، أم أنها تدور همساً خلف الكواليس؟ ثم هل الشعبان بحجم المأساة المرتقبة والحكومتان بقدر الكارثة المحدقة، أم أن الصغار عندما يلعبون بالنار لا يدركون أنها حتماً ستحرق الأخضر واليابس، وأنها بالضرورة ستطول القريب قبل البعيد؟! بالتأكيد لم يفترق السودان عن مصر، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، لم ينفصلا، لا في المواثيق الدولية ولا الاتفاقيات الحدودية، الشعبان لا يعترفان بالفراق الأبدي، رغم تهديدات الغضب اللحظي. لم يكن للاحتدام مكان، لا في الملفات ولا على المقدسات، ولا على حدود الشلالات، كتم كل طرف معاناته من الآخر سنوات، وحبس كل طرف دموعه في مآقيها خجلاً أو ندماً على موقف لم يجهر به أحدهما أو على ما فات، اكتفيا بالصبر والصلاة، لم يكتبا حرفاً مسيئاً، ولم ينشرا صوراً مضللة، لكن عندما يبلغ السيل الزُّبى، وعندما تبلغ الروح الحلقوم يصبح للكلام معناه، وللقرارات مغزاها، وللمواجهات دستورها المكتوب. أردوغان خلط الدخان بالماء المغلي، وراهن في زيارته الأخيرة للأشقاء في شمال الجنوب على شعرة معاوية، جاء إلى السودان وفي كلتا يديه وعد برخاء، وعهد بعهد جديد، وورد على صفحة النيل العجوز، تحركت أساطيل السلطان من باطن التاريخ إلى حاضر الجغرافيا، من سالف العصر والأوان، إلى هواجس سابقة التجهيز، محاولا تهديد العمق الإستراتيجي للمصريين، على الأبجديات المحركة لعصبية القبيلة، والمشعلة للنار الموقدة في عمق شعوبها الأصيلة، المشكلة المصرية ــــ السودانية ليست حلايب ولا شلاتين، ليست ماء فوق الأرض أو تحت الطين، وليست سدّاً في أعالي النهر أو في أسفل سافلين، إنما على ثقة ذهبت أدراج الرياح، على فرص تضيع وعدو «يجتاحُ ويجتاح». أسامة مهران
مشاركة :