تخليص الوطن من زنزانة الطائفية الخروج من الشيزوفرانيا الفكرية والسياسية

  • 1/22/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

من المؤكد أن الديمقراطية لا تستقيم من دون وجود معارضة حقيقية وفاعلة يكون بإمكانها ممارسة دورها السياسي بكل حرية - وضمن إطار القانون - من خلال طرح البدائل والتنافس الحر على كسب الجمهور. كما إنه من المشروع تماماً للمعارضة أن تعمل ضمن منطق العمل من أجل إظهار قدرتها على التأثير في الحياة السياسية من خلال برامجها المدنية الواضحة والمعقولة في إطار قدرة احتمال الواقع، من دون القفز في الهواء. هذا الأمر مشروع تماماً في تقديري، طالما أنه لا ينتهك قانوناً ولا يخل بالقيم الثابتة للمجتمع، لكن -وفي ذات الوقت-يجب أن تكون هذه المعارضة قادرة على التعاطي مع الانتقادات التي توجه إليها وإلى مواقفها بقدر كبير من الأريحية والتفهم، انسجاما مع روح الديمقراطية التي تعلن صباحا مساء بأنها تناضل من أجلها، خصوصاً أن هذا النقد الموضوعي لبعض ممارسات المعارضة وبعض مواقفها، هدفه الأساسي التذكير بالمنابت الناظمة لمواقفها، منذ نشأتها وفي سياق تطورها التاريخي والسياسي، وطبيعة الإشكالات التي تواجهها في سعيها لتحقيق أهدافها. وفي مقدمتها نوعية التحالفات التي تقيمها في سياق التحولات التي يشهدها العالم، بعد اختلاط الأوراق. فعندما ينقلب المناضل اليساري على نفسه، من أجل أن يتماهى مع حلفائه الجدد، يصبح غير مؤهل ليتكلم باسم اليسار، وعندما ينحاز اليساري إلى منطلق تدميري للوطن وللاقتصاد الوطني، بالحث على تدمير هذا الاقتصاد، فتلك العلامة القاطعة على وجود حالة من الشيزوفرانيا الفكرية والسياسية الحادة وفقدان البوصلة السياسية والدخول في متاهة الضياع والارتباك. السؤال الذي كنا نطرحه قبل انتشار مثل هذا الوباء هو: لماذا أخفقت البرامج التي طرحتها بعض القوى المنتسبة إلى اليسار في تحقيق التحولات المطلوبة على أرض الواقع؟! ولماذا لم يصبح هذا اليسار قوة تطوير ديمقراطية للحياة السياسية؟! ولماذا تحول هذا اليسار إلى الارتباط بمنظومة الاستبداد والخرافة الطائفية وجعل منه جزءا من مرجعيته السياسية؟! كما كنا نقول إن أهم المشكلات التي أدّت باليسار إلى أزمته، وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع، هو اعتماده بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة، أنتجتها الأحزاب الماركسية العالمية دون تكييفها وإعادة إنتاجها وفقاً لقوانين الواقع المحلي ومحدداته، والاكتفاء بإسقاطها على واقعنا، دون النظر في متطلباته وإشكالاته، لكن السؤال الذي بتنا نطرحه اليوم هو: لماذا فقد اليسار حتى ما بقي من يساريته؟ لماذا لا يرى أي مشكلة في التحالف مع الجماعات الطائفية غير الديمقراطية، التي تمنح زعماءها قدسية تجعلهم فوق المساءلة؟ وقد أكدت الاحداث التي شهدناها خلال السنوات الماضية أجوبة قاطعة وواضحة بالنسبة لمن يريد استخلاص الدروس، منها أن القوى الطائفية تستخدم قوى اليسار وحتى الليبراليين لتجميل واجهتها الإقصائية المظلمة، إلى حين الوصول إلى السلطة. وبعد ذلك يتم التخلص من «الماكياج السياسي»، ويكفي هنا أن نستذكر تجربة الحركة الوطنية الإيرانية مع قوى الإقصاء الطائفية بعيد الثورة الإيرانية مباشرة. فبعد استيلائها على السلطة قامت بإبعاد الحركة الوطنية من الحكومة، وإبعاد الحركة اليسارية تماما والتنكيل بها، بل قامت بإغلاق الجامعات لمدة عامين لتجفيف منابع الفكر الوطني الديمقراطي. ومن ثمة إلغاء الحريات السياسية (إغلاق الجرائد -حل الأحزاب -اعتقال وإعدام المعارضين-تشديد الإجراءات القمعية ضد الحركة العمالية والنقابية بذريعة مخالفتها لقيم الجمهورية الإسلامية). كما قامت لاحقاً، وخلال سنوات معدودة تصفية ما تبقى من المكتسبات التي حققتها المرأة في نضالها من أجل المساواة والحرية. وباختصار كان الحلف مع القوى الطائفية خطأ فادحاً ارتكبته القوى التي تعتبر نفسها تقدمية، وها هي إلى اليوم، تدفع ثمن ذلك الحلف غير المقدس. وللتذكير فقط، لمن يجهل التاريخ القريب، ففي العام 1979 صادق حزب «توده» الشيوعي الإيراني على دعم الخميني مؤكداً المشاركة في الاستفتاء والانتخابات. وفي وقت سابق من نفس العام ساند الحزب الطائفيين، باعتبارهم الحكام الجدد، وبعد ذلك مباشرة شرعت المحاكم الإسلامية، في تنفيذ أحكام الإعدام في المناضلين. ومع ذلك فإن حزب «توده» شهر بالذين انتقدوا المحاكم الإسلامية، واتهمهم بالعمالة للسافاك وللاستخبارات الأمريكية. وتدريجياً انقلبت ثورة الخميني على حلفائها من اليسار ونكلت بهم، وأعدمت الآلاف منهم، وأسست لدولة الاستبداد والانفراد بالسلطة باسم الدين والطائفة. لقد أكدت تلك التجربة المريرة بالنسبة لمن فقد ذاكرته وجود مخاطر كبيرة وحقيقية من وراء التحالف مع القوى الطائفية على النضال من أجل الديمقراطية ومدنية الدولة والعدالة وحقوق الإنسان. فالخيار بين الوقوف مع الإصلاح السياسي الرسمي -مهما كان محدوداً-وبين المواقف الانقلابية للقوى الطائفية، قد أفضى إلى انحياز جزء من اليسار إلى جانب القوى التي تشكلت في رحم الطائفية. كما أن الخيار بين الموقف الوطني في مواجهة التدخل الخارجي، وبين الموقف المتخاذل والمتواطئ مع الأجنبي قد أفضى هو الآخر إلى التورط في بعض المواقف في نوع القبول الغريب بالتعاون مع القوى الخارجية، التي لا تخفي أطماعها في التدخل في الشأن الوطني والشأن الإقليمي، باستغلال المشكلات والأزمات الداخلية.  ويمكن هنا الاسترسال في استعراض الأمثلة العديدة التي تورط فيها بعض اليسار إرضاء لحلفائه -تواطؤاً أو تجاهلاً أو سكوتاً، لكن من الواضح أن هذا الحلف قد تم تأسيسه بالدرجة الأولى على أسس تتناقض مع مبادئ اليسار ذاته. بل وقع خلاله وبسببه تشويه المبادئ التي قام عليها نضال اليسار، مثل المساواة والتضامن والعدالة والحرية ومعادة الاستعمار. وفي المقابل كرس هذا التحالف قيم اليمين المرتكزة على الطاعة والتقديس لرجال الدين والاضطهاد للمرأة وخداع الجماهير. فكانت النتيجة على قدر الاختيار؛ التورط في معركة عبثية أسهمت في تأخر الحراك الديمقراطي والنضال الاجتماعي لتكريس الدولة المدنية والمساواة وتعزيز وتنمية ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية.  إن التحالف مع الأحزاب الطائفية هدم للوطن وتخريب للتطور، ونصب للفخاخ لاعتقال الوطن في زنزانات مذهبية متخلفة، وعليه لا بد للقوى الديمقراطية الحقيقية، إن أرادت أن تستعيد دورها أن تستعيد هويتها المسروقة وتستخلص الدروس من أخطائها لتعود إلى الاسهام في البناء الوطني.

مشاركة :