محمد الأسعد بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الرئيس جمال عبد الناصر، يشعر الكثيرون من العرب بقيمة كبرى للمرحلة التاريخية القريبة التي يطلق عليها اسم «المرحلة الناصرية». هذه المرحلة لا تثير الحنين فقط بفضل جاذبية رئيس عربي امتدّ ظلّه على مساحة الوطن العربي، وتجاوزها إلى ثلاث قارات، آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل وبفضل فعالية ثقافية/ سياسية/اجتماعية / تاريخية/ اقتصادية مركّبة أحاطت حياة الإنسان العربي بالمعنى، ومنحت دوافع وجوده أسباباً فقدها منذ قرون خلت، ووعدته بانتماءٍ إلى كلية محرِّرة أكبر من وجوده الفردي الضيق، سواء كان عائلياً أو قبلياً أو إقليمياً.يبدو هذا الشعور غامضاً أحياناً، إلا أنه في أبسط تجلياته إحساس بالأمان والثقة بالنفس والمحيط. وإذ يركز بعض الناس الأمر في شخصية رمز تلك المرحلة، عبد الناصر، يفكر بعض آخر بما هو أبعد، بالحالة الموضوعية التي كانت شبه مناخ عام أقلّ تعلقاً بشخص محدّد، وأكثر تعلقاً بعدد من الرموز لم يتم جلاؤها حتى الآن. الآن، من المعتقد أن «الناصرية» ترميز لمناخٍ وجودي أحاط بالحياة العربية طوال ما يقارب ربع قرن، أو بعبارة أكثر تحديداً، كانت رفع نظام أعلى، تنتظمه بنية ومفاهيم فيما يشبه الإطار الكوني الشامل، إلى مستوى الرمز. صحيح أن هذا النظام كان يتمظهر في شخص وسلوك وخطاب ورغبات، إلا أنه كان في العمق عملية تحول اجتماعي/سياسي/فكري، يعتني فيها الإنسان بكينونته في حقل وجود شامل يعلو على ما يحيط به من أجزاء وشظايا، وصولاً إلى متَّحد ٍ يشمل المجتمع والعالم. وحمل هذا المتّحدُ مظهرين متناقضين ظاهرياً؛ فهو من جهة معطى لتجربة الإنسان العربي، وهو من جهة أخرى ليس معطى. هو معطى، بمعنى أن الإنسان لا يعرف التجربة إلا بمقدار مشاركته في سرّ هذا المتّحد، وهو غير معطى، بمعنى أنه ليس له وجود موضوعي خارجي، ولا يمكن معرفته إلا بالمشاركة الجماعية. حين تبلغ المشاركة في وجود أعلى ذروة اكتمالها، لا تعني أن الإنسان يمتلك موقعاً أمام مشهد الوجود مريحاً، ومنه يستطيع تناول ما يشاء مما يقع عليه نظره، لأن مثل هذه الصورة المجازية يمكن أن تدمّر صفات هذه الوضعية القائمة على حيوية التناقض؛ إنها توحي بصورة مشاهد مكتفٍ بذاتهِ، مزود بمعرفة، أو هو في قبضة معرفة في مركز أفق وجود من نوع ما، على رغم أن هذا الأفق محدّد. إذا أضفينا على المتّحد الجماعي الذي وفّرته الناصرية، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، صفة الوجود الشامل، نجد أن المشاركة فيه لم تكن مجرد انشغال جزئي أو مؤقت، بل كانت تتطلب الانهماك الكامل، أن ينهمك الإنسان بكامل كينونته، لأن المشاركة هنا تعني تحقيقاً للكينونة ذاتها. وتعني في المطاف النهائي تحقيق ثلاث أساسيات استراتيجية يقوم عليها وجود هذا الوطن: كسر ما يحاصره من قوى استعمارية، وتحريره وتوحيده، وفتح آفاق تنميته على كل صعيد. ولمثل هذه المشاركة ببعدها الترميزي الذي يستهدف جلاء العلاقات والمفاهيم في حقل وجود معين، تاريخ طويل. في المراحل المبكرة من التاريخ الإنساني كان تعدد الوقائع غير المكتشفة والمشاكل غير المحلولة يعيق أفعال الترميز. لم يكن الكثير واضحاً في ظل تجربة المشاركة، وبنية حقل الوجود (المجتمع والعالم). ومع ذلك يمكن تمييز بضع سمات نموذجية لتجربة عملية الترميز، أولى هذه السمات هيمنة تجربة المشاركة وشموليتها مهما كان وضع الإنسان، لأنه يعرف مبدئياً أنه جزء من وجود أكبر، من تيار وجود يجري فيه ومعه في وقت واحد معاً، تيار ينتمي إليه كل شيء يدخل في منظوره، أو ينضوي تحته. في هذا المتحد الجمعي تجربة حميمة لأنماط من الطبيعة ذاتها تتغلب على الانفصال بين عناصرها. وفي مثل هذا المتّحد يتحرك الإنسان حيث يمتلك كل شيء يلتقيه إرادة وقوة ومشاعر، وحيث كل الأشياء متماثلة وغير متماثلة في الوقت نفسه، وحيث يمكن أن يتحوّل أي شيء إلى شيء آخر. ثانية هذه السمات النموذجية تتعلق بالانخراط في دوام وزوال المشاركين في المتحد. هنالك تجربة كينونة منفصلة في تيار هذا الوجود، ومن حيث درجة البقاء، يتميز بعض أشكال الكينونات عن بعضه الآخر؛ بعضه يبقى وبعضه يزول. ويتجاوز المجتمع كينونة الكائنات الإنسانية التي هي أعضاء فيه، والمجتمعات نفسها يتجاوز العالمُ بقاءها، ويتجاوز الكوني هذا الأخير. هنالك تراتب. هذا ما يعرضه الوجود في مسألة البقاء والزوال. ومعرفة هذا التراتب تصبح قوة في تنظيم كينونة الإنسان، لأن الأكثر ديمومة يوفر بنية الإطار الذي يجب أن تتواءم فيه الكينونات الأقل ديمومة، هذا إن لم ترغب بالانقراض. من هنا يتولد أول شعاع من شمس المعنى لدور الإنسان، لاكتشافه لمعناه في مسرحية الوجود، اعتماداً على أن النجاح في هذا يتوقف على الاتساق أو التناغم مع النظم المرجح أنها الأكثر ديمومة. وتجربة الإنسان العربي مع النظام الناصري هي تجربة استكشاف المعنى، معنى وجوده، بالاتساق مع وجود أعلى وأكثر ديمومة، يتجاوز زوال الأفراد. ترمز إلى ذلك الأهدافُ البعيدة للمتّحد الجامع، للمشاركة، للكشف عن الكينونة في ضوء وجود أكثر عمومية. في انفصال الإنسان عن تجربة للموت، وفي مشاركته في تجربة للحياة. سمة نشوء النظام النموذجية عبر الترميز تتمثل في محاولة جعل نظام الوجود مفهوماً على أكثر من صعيد قدر الإمكان، بخلق رموز تعتبر المجهول فعلا يناظر المعروف. وفي التاريخ يبرز شكلان من أشكال هذا الترميز؛ الأول إيجاد تناظر أو اتساق بين النظام الكوني والنظام الاجتماعي، والثاني ترميز النظام الاجتماعي كنظير لنظام أرضي تتسق فيه كينونة الإنسان مع الوجود. الشكل الأول أسبق تاريخياً، أما الثاني فيولد في عصور الأزمات، أي بعد انهيار نظام التناظر الكوني، ذاك الذي تعمل في ضوئه الإمبراطوريات عادة. ويتم البحث عن منبع النظام هنا في عالم أكثر بقاءً من العالم الظاهري، في كينونة وجود غير مرئي وراء كل وجود في العالم الملموس.في النظام الناصري، وجد هذا تعبيره في الأفكار العليا عن الأمة الواحدة، والأمل في الوصول إلى الجنة الأرضية. ومع أن هذه المطامح التي رمّزت الوجود ذات طابع أرضي، إلا أن تجربة من هذا النوع، من نوع المشاركة في متحد يعلو على المصير الفردي، لا تحركها عناصر أرضية بقدر ما تحركها روح الإنسان؛ روح متسقة مع الكل الكوني. لقد قدم النظام الناصري وعداً بالانتماء، انتماء كينونة الإنسان إلى كليات كبرى، الأمة الواحدة، التاريخ الواحد، المصير الواحد..إلخ، وقدم وعداً بالمشاركة التي وحدها تمنح الإنسان معنى، وتمنح كينونته ديمومة في إطار ما هو أبقى. وتستثير هذه التجربة نوعاً من الرغبة في التفاني، بل والتضحية بالكينونة الزائلة. تلك هي الحالة الوجودية التي يكون فيها للإنسان دور، ولكلمته مسار، ولحركته غاية، أي معنى، سواء تبيّنه أم لم يتبينه، وهو لا يتبينه في أغلب الأحوال. ولأنه لا يستطيع معرفة هذا الدور وهذا المعنى إلا عبر تجربة يمرّ بها، ومشاركته فيها وليس خارجها، نجد التوتر والقلق من أغنى صفات هذه الحالة لدى بعض الناس، والأمان والاطمئنان لدى بعض آخر. والقلق والاطمئنان وجهان لوعد بالانتماء. وفي هذا الوعد، أي في الأفق، يكمن معنى التجربة الناصرية، وليس فيما تحقق فعلاً وعاجله الزوال.
مشاركة :